(تجربة خاصة)
ارجو أن يتحملني المسلمون قبل الفرنسيين فى ما احكى عنه من تجربة خاصة عشتها ما يقارب الثلاث أعوام بفرنسا بعد قدومى لها طالبا اللجوء بسبب معارضتى لنظام البشير بالخرطوم
قبلت فرنسا طلبى للجوء فى الشهر الاخير لعام ٢٠١٨
ثم بدأت فى استلام إعانة شهرية تمكننى من العيش وشراء ما يكفينى تماما طوال الشهر ثم حصلت بعد ذلك على إقامة عشر سنوات بعد مضى ما لا يزيد عن خمسة أشهر من تاريخ طلبى للإقامة
مع إعانة شهرية بزيادة اكثر قليلا مما حدد لى من مبلغ قبل حصولى على الإقامة مع بطاقة أتمكن بها من العلاج مثل ما يتعالج المواطن الفرنسي بل أتميز على المواطن الفرنسى بحصولى على بطاقة للمواصلات مجانا داخل ما اسكن من مدينة وكان ذلك فى مدينة نانت أولا ثم مدينة بيزانسون مؤخرا إضافة إلى فرصة تعلم اللغة الفرنسية من خلال ما يعرف بالفورماسيون (formation) على نفقة الدولة مع إعانة اضافية على ما تأخذ من الإعانة الشهرية الاخرى للمعاش
وحقيقة كل ذلك لم يدهشنى مثل ما أدهشنى بل دفعنى لكتابة هذه القصة أو سمها تجربة إن شئت وذلك عندما اتصلت بى ما يعرف فى نظام اللجوءب( الاسستنت ) وهى موظف مساعد يخصص لك لاعانتك فى الحصول كل ما تحتاج مما هو من حقوقك كلاجئ ولا سيما فى مرحلة عدم معرفتك الحديث باللغة الفرنسية فيخاطب ذلك المساعد كل الجهات المعنية يحكى لهم عن ما تحتاجه انت
من مستحقات
فمن ضمن ما شد إنتباهى وجعلنى أقف طويلا شاكرا ممتنا لهذه البلد فرنسا أن اتصلت بى ذات مرة تلك الفتاة الفرنسية المساعدة قائلة : بأن هناك فرصة لسكن اتيحت لى مما اوجب علينا الذهاب سويا لنشاهد السكن فنحجزه إن كان مناسبا لك وتمت موافقتك عليه وإلا سنظل نبحث لك عن خيار آخر وبالفعل استغلينا سيارة مساعدتى تلك وانطلقنا إلى مكان السكن وهى تقود سيارتها فى غاية من الاريحية واللطف ذكرت لى ونحن فى طريقنا إلى مكان السكن بأنها ستضطر الى غشيان مكتب تابع لهم لتسلمه بعض الأوراق التى تتعلق بمشوارنا هذا وبالفعل وصلنا هذا المكتب فنزلت سريعا وهى تركض ركضا إلى داخل ذلك المكتب ذهابا وايابا ليس هذا فحسب بل تعتذر ايضا عن كونها تأخرت على وانا جالس منتظر داخل السيارة فكانت ملاحظات لا يجب أن تمر على من له مجرد احساس اوتقدير للمعاملة بنوع من اللطف فضلا عن المبالغة فى إحسان المعاملة
هذا مثال وغيره كثير من الأمثلة مثل أن يخرج المسئول الفرنسي فى مؤسسة ما من مؤسسات الدولة اذا حدد لك موعدا لللقاء به
أو اذا طلبت انت ذلك فتجده يخرج من مكتبه ليأتى إلى مكان الاستقبال أو غرفة الانتظار مكان وجودك ليأخذك بيده إلى مكان مكتبه حيث يتم الاجتماع او اللقاء
ما اذكره هنا هو من قبيل المثال وليس حصرا على ما يمتاز به هذا الشعب من لطف فى التعامل واكرام لآدمية الإنسان دون مراعاة لأى فروق كما عنونت لمقالى هذا
وكذا تعظيمه لكلمة الشكر والتحية فهناك صنوف من صيغ التحية والشكر والاعتذار ليست صفة للكبار فقط وإنما حتى الاطفال يدهشونك عندنا تسمع منهم كلمة من تلك الكلمات
واعترافى هذا بتلك الأخلاق سبقنى عليه الصحابة رضوان الله عليهم فقد أورد مسلم فى صحيحة أن الصحابى عمرو بن العاص
قال فى( بنى الأصفر )
وهم من يسكنون اروبا اليوم قال : (خيرهم ليتيم ومسكين وفقير )
واذا كنت متحدثا من مضايقات وعدم ترحيب حدث لى من جهة ما فقد حدث لى ذلك من الذين عرضت عليهم رغبتى فى التعاون معهم فى العمل الدعوى بفرنسا وفى مدن مختلفة من اخوانى المسلمين من جمعيات إسلامية ومساجد فإلى يومنا هذا لم أجد فرصة لاقيم درسا
او محاضرة فى مسجد من المساجد ومعلوم للجميع من هى تلك الجهات التى تتولى الغالبية الساحقة من أمر المساجد بفرنسا
واذا قال قائل كيف لك أن تثنى هذا الثناء العاطر لبلاد اساءت بالرسوم الكاريكاتيرية لرسولنا الكريم قلنا له لو وقفت على ما حكم به القرآن فى سورة الأنبياء من عجلة لأصحاب ردود الأفعال جراء الإساءة لنبينا الكريم لما استعجلت فى الرد الذى لا فائدة من وراءه غير اصرار المسئ على تكرارها للإساءة فنحن من يرد السب والاساءة لتعاد على رسولنا الكريم أضعافا مضاعفة
يبقى ما لابد من التعرض له وهو مما يشكل على الكثير منا او ربما ما لا نفهمه فهما صحيحا
وللبداية فى الحديث عن ذلك اقول مقدما انا رجل مسلم بل من الناشطين فى الاسلام والداعين اليه واختلف مع الدعوة الى العلمانية فى بلاد المسلمين ويستغرب الكثيرون فى نقدى لها وانا اعيش فى بلاد علمانية لها على من الفضل ما على
ولكن فات على هؤلاء اننى لا انتقد العلمانية فى فرنسا ولا فى بلاد أخرى غير إسلامية ولكننى انتقد تصور ووجود العلمانية فى بلاد يدين كل سكانها أو اغلبيتهم الساحقة بدين الإسلام فإنى لا انتقد العلمانية فى فرنسا
بل أرى انه من غير المعقول أن تستغرب إختيار غير المسلم للعلمانية او الشيوعية او غير ذلك من ايدولوجيات فهم احرار فى ذلك ولا يحق لى الحديث نقدا للعلمانية كمنهج لهم سواء كنت اعيش معهم او اعيش فى بلاد أخرى فإن كان لابد من حديث بيننا فقط هو الحوار والجدال
وكما لم يعترضنى احد طيلة ايام وجودى بفرنسا لكونى مسلما وامارس عبادتى كما اريد محترما ملتزما قوانين البلد ولوائحها فكذلك لا يحق لى مخالفة ما اختارته فرنسا لنفسها من منهج علمانى او غيره
ومن حق فرنسا حماية اختيارها ذلك من أى محاولة لتعكير صفو ما اختارت فمن لم يعجبه الحال فليغادر الى بلده او أى بلد آخر
ثم تبقى الإجابة عن ما وعدنا بشرحه مما هو مختلط على البعض عن سبب ما ذكرناه من احترام وتقدير وتكريم فرنسا للادمية
فهل هو بسبب إتخاذ العلمانية منهجا ام لشئ آخر ؟؟
وهل غياب ذلك الخلق فى كثير
أو كل بلاد المسلمين هو بسبب اتخاذهم الإسلام عقيدة وديانة ام لسبب آخر ؟؟
رأيى أن ما تمتاز به فرنسا وربما غيرها من دول الغرب عموما من تكريم للآدمية هو ليس بسبب علمانية
أو إبعاد للاسلام كعقيدة للشعب الفرنسي وإنما هذا كله نتيجة لثقافة وخلق عمدالفرنسيون على تأسيسة ونشرة اوساط الشعب الفرنسي ونجحوا فى ذلك نجاحا باهرا فكان ذلك بسبب التربية التى تتضمنها مناهج التعليم وتذيع لها وتنشر غالب اجهزة الإعلام المرئى منها والمسموع
وإن أصر بعضنا على أن العلمانية هى العلة أو السبب فى ذلك لقلنا ولكن ينتقض ذلك بإنعدامه فى بقية دول كثيرة تتخذ العلمانية منهجا ولا تتحلى بما تتحلى به فرنسا مما ذكرنا من صفات وميز حميدة مما يؤكد أن العلمانية ليست هى سبب فى تبوأ فرنسا لتلك المكانة
أما الإجابة على انعدام ذلك فى بلاد الإسلام برغم أن الإسلام يدعو فى كثير من تعاليمه باحترام الآدمية وتكريمها أيضا
فالسبب فيه لا يعود الى إتخاذ الإسلام منهجا وعقيدة وانما بسبب من يتبنون ذلك الإسلام فيسيئون اليه بالعمل بخلاف ما فيه من آداب وأخلاق
لذلك يجب أن يعاد النظر فى تلك التقريرات والمفاهيم المخلوطة التى تربط ربطا غير صحيح فى ما بين ما يوجد من تكريم لآدمية الإنسان ونظام العلمانية وانعدام ذلك فى ديار المسلمين بسبب الإسلام
بقى ان اقول وربما لا يعجب كلامى بعض من يعيشون فى فرنسا من جاليات مسلمة ترفض الالتزام بقانون البلد اذا ما عارض تعاليم دينهم
فالبطبع لا يتصور أن تغير الدولة الفرنسية ما اتخذته من قوانين علمانية لتوافق ما تعتقدون من معتقدات أخوتى المسلمين كما لا يمكن الاستمرار على هذه الحالة من التوتر بيننا وبين الدولة الفرنسية
فديننا فيه من المساحات ما يسمح لنا بالتقوى حسبما نستطيع ( فاتقوا الله ما استطعتم )
وهناك من أفتى بعدم وجوب (الحجاب ) على سبيل المثال وغير ذلك فى بلاد غير المسلمين اذا كانت قوانين تلك البلاد
لا تسمح بذلك بل منهم من سمح بمشاركتهم حتى فى ( هديهم الظاهر )
ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية فى بعض من فتاواه
ولا سيما كتابه اقتضاء الصراط المستقيم
ففرق بين وجودك فى ديار إسلامية وديار غير اسلامية مما يوجب العناية بالكتابة فى فقه العيش فى بلاد غير المسلمين حتى لا ندخل فى صراعات مع تلك المجتمعات هذا إن أردنا العيش معهم وإلا فلنغادر
وعندما نذكر عدم الاستطاعة التى تكون عذرا للمسلم عن تركه لشئ مما طالبه به الإسلام
لا نعنى بذلك نفى مجرد القدرة على القيام بالعمل وإنما نقصد بذلك نفى القدرة أو الاستطاعة الشرعية التى لا تمكننا الاوضاع فيها إلى فعل ما نريد
وإلا جابهنا أنفسنا بعقوبات قانونية
وقد تأسس فى فقهنا الاسلامى كثير من القواعد الفقهية المعينة على ما نقول مثل : قولهم : ( وليس واجب بلا اقتدار ولا محرم مع اضطرار ) ( والمعجوز عن أداءه ساقط الوجوب والمضطر اليه بلا معصية غير محظور )
فلابد من الاهتداء والاقتداء بذلك الفقه ليقينا كثيرا مما نقع فيه من حرج واشكالات وديننا هذا جاء من ضمن ما جاء لرفع الحرج
هذه شهادة منى لفرنسا متبوعة بنصح لاخوتى المسلمين المقيمين فيها سواء كانوا من حملة الجنسية الفرنسية أو الإقامة من غير الجنسية
والشكر أجزله مرة اخرى لفرنسا
د. يوسف الكودة
فرنسا
مدينة بيزانسون
١٤ / ٨ / ٢٠٢١
التعليقات