كتبنا في مقال سابق، أن يأتي الحديث عن المفوضيات القومية المستقلة، متأخرا خير من أن لا يأتي، وذلك بالإشارة إلى قرار مجلس السيادة بتاريخ 19 أغسطس/آب الماضي، بتكليف عدد من أعضائه لإبتدار نقاش حول تكوين لجنة تبحث تشكيل مفوضية الانتخابات ومفوضية صناعة الدستور.
وكنا في عدة مقالات قد حذرنا من تأخير تكوين المفوضيات، والذي تأخر كثيرا جدا، لا لأنها استحقاق دستوري منصوص عليه في الوثيقة الدستورية جنبا إلى جنب مع استحقاق تكوين كل من مجلس السيادة ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي فحسب، بل لأنها مناط بها إنجاز مهام أساسية ومصيرية، الفشل في إنجازها يعني فشل الفترة الإنتقالية. وفشل الفترة الإنتقالية يعني المزيد من التأزم، وبدرجة أشد، ربما حد تجدد وتفاقم الحرب الأهلية، ولأن مهام المفوضيات ليست سهلة أو بسيطة، بل حتما ستكتنفها خلافات ونزاعات ربما تتطور إلى صراعات وتوترات حقيقية، لذلك كان من المفترض تشكيلها مبكرا، ولأن تكوين المفوضيات يعني توسيع المشاركة في إدارة الفترة الإنتقالية، وإعادة الكفاءات المؤهلة غير المنتمية سياسيا إلى منصة إتخاذ القرارات المصيرية مشاركة مع القوى الأخرى المنتمية سياسيا وقوى المجتمع المدني، ولأن تأخير تكوين المفوضيات يعني، وكما كتبنا أكثر من مرة، استمرار مؤسسات الدولة مخطوفة من قبل أركان النظام المخلوع، كما يعني وضع العقبات والمتاريس أمام إنجاز مهام ثورة ديسمبر/كانون الأول العظيمة.
في مقالنا السابق ناقشنا المهام التي نتوقع أن تتصدى لها مفوضية صناعة الدستور، كما قدمنا إضاءات مختصرة حول المؤتمر القومي الدستوري. واليوم، نتناول مفوضية الانتخابات، والتي ينتظرها عمل كثير، ربما أهم جزء فيه هو قيادة تشاور واسع بين مختلف قطاعات الشعب السوداني حتى يتحقق التوافق حول قانون انتخابات ونظام انتخابي يتجاوز سلبيات التجارب الديمقراطية السابقة، ويأتي ملائما للواقع السوداني بتعرجاته وتعقيداته الإثنية والقبلية والسياسية والدينية والطائفية…الخ. هذه التعرجات والتعقيدات من المفترض أن تتصدى لها بالبحث والعلاج مفوضية صناعة الدستور والمؤتمر القومي الدستوري، وأحد نواتج هذا العلاج هو إصلاح النظام السياسي في البلد، وقد ناقشنا بعضا من تفاصيل ذلك في مقالات سابقة. لذلك، فإن نجاح مفوضية الانتخابات في مهامها يعتمد تماما على نجاح وإنجاز مهام مفوضية الدستور، هذا إذا أردنا أن يكون ناتج الانتخابات نظاما سياسيا مستقرا، يعبر بكل صدق وشفافية عن توجهات الرأي العام، بغض النظر عن الفائز أو الخاسر في الانتخابات، وبعيدا عن تزييف إرادة الناخبين بإستخدام النفوذ القبلي أو الطائفي أو الديني أو المالي، وبعيدا عن الممارسات الفاسدة من تزوير وتلاعب وشراء أصوات. وكما أفادنا بعض الخبراء، فإن أقل مدى زمني حتى تنجز مفوضية الانتخابات أعمالها، هو 24 شهرا.
كثيرون منا لا يرون في مفهوم الانتخابات سوى عمليات التعداد السكاني وإعداد السجل الانتخابي وإجراءات الترشيح والإقتراع والتصويت، وبالتالي يختزلون مهام مفوضية الانتخابات، وكذلك يختزلون قانون الانتخابات، في هذا التصور والإدراك لمفهوم الانتخابات. وبالطبع، كل هذه التصورات والعمليات، وغيرها من الإجراءات، المرتبطة بمعنى مفهوم الانتخابات، صحيحة ومهمة جدا وجوهرية وبدونها لا يمكن أن تقوم انتخابات، ولكن فكرة الانتخابات أكبر وأوسع وأعمق من ذلك بكثير. أنظر إلى تجاربنا الانتخابية السابقة، وأعني التجارب الحقيقية في نهايات فترات الإنتقال السابقة، وليس التجارب الزائفة والمصنوعة في ظل الأنظمة الدديكتاتورية، كل تلك التجارب الحقيقية استوفت التصورات والإجراءات المعروفة من تعداد سكاني وسجل انتخابي وإجراءات ترشيح وطعون وإقتراع مراقب من وكلاء المرشحين…، ومع ذلك كلها أفضت إلى إعادة إنتاج الأزمة، واستمرار دوران الحلقة الشريرة. وعندما أقول أن فكرة الانتخابات أكبر وأوسع وأعمق من إجراءات التسجيل والترشيح والتصويت، فإنما أشير إلى مسألة الإصلاح السياسي، والتي تحتوي على عدة بنود من بينها إدارة التنوع، والبنيان الدستوري، والمشروع التنموي…الخ، بالإضافة إلى مسألتي نوعية النظام الديمقراطي ونوعية النظام الإنتخابي، وهما المعنيان بمناقشتنا هذه.
للدقة، نحن عندما نشير إلى نوعية النظام الديمقراطي فإنما نعني نوع الممارسة الديمقراطية، فهذه متعددة ومتنوعة الأشكال، في حين أن الديمقراطية في حد ذاتها ليست كذلك، فهي، في كل الظروف والأحوال جوهر واحد أحد، ومضمون ثابت لا يتغير، وقيم كونية مطلقة. هذا الجوهر، أو المضمون، أو القيم الكونية المطلقة، يتمثل في حزمة الحقوق والحريات، كحرية الرأي والتعبير والمعتقد والاختلاف والتظاهر والتنظيم إلى جانب حرية الصحافة والإعلام…الخ، وفي سيادة حكم القانون وإستقلال القضاء، وفي الفصل بين السلطات، وفي إحترام التعددية والتنوع وفق أسس يحددها دستور البلاد ويكفل ممارستها فعلياً على أرض الواقع بما لا ينتقص من مضمونها تحت أية ذريعة كانت، وفي التداول السلمي للسلطة، وفي إكساب كل ذلك بعدا إجتماعيا مرتبط بتوفير الحاجات المادية للناس، وتوفير لقمة العيش للمواطن. إن أي برنامج، أو نظرية، أو أطروحات، تدعي الثورية، وتقول إنها تسعى لتغيير المجتمع، وأنها تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية، فلا بد أن تنطلق من ضرورة الحفاظ على، وترسيخ كل، ما اكتسبته الجماهير من هذه الحقوق والحريات الأساسية. وبقدر اقتراب هذه البرامج والأطروحات من تبني الديمقراطية، بقدر ما تقترب من تقديم حلول صحيحة لمسائل التطور مهما كانت الصعوبات ودرجة التعقيد.
البعض يحاجج بأن قيم الديمقراطية المطلقة المشار إليها، هي سمات خاصة بالغرب والليبرالية وحدها، وليس بالضرورة أن تتبناها الممارسة السياسية في بلداننا. وهذا، في تقديري، إعتقاد خاطئ، إذ يتعارض مع عمومية وعالمية هذه القيم، لكن له أساسه الموضوعي في أن الليبرالية هي أول من صاغ تلك القيم والمبادئ بشكل مؤسس ومباشر، مما يعد مأثرة عظيمة وإنجاز تاريخي حققته الثورة البرجوازية إنتصارا للبشرية بعد أن عانت ما عانت، ولمئات السنين، منذ العصور المظلمة، عصور العبودية والاقطاع وسيطرة الكهنوت. سنواصل ونناقش التفاصيل حول الانتخابات.
التعليقات