محمد جلال أحمد هاشم
كمبالا – 27 نوفمبر 2023م

ناقشنا في مقال سابق محاولات قطاع من منسوبي مليشيات الجنجويد المجرمة لاستخدام خطاب السودان الجديد بغرض تسويق مشروعهم الإجرامي، خاصةً ممن كانوا يدعون زيفا وخداعا انتماءهم لمشروع السودان الجديد ومجمل أفكار ونظريات الهامش والمركز والتحليل الثقافي. وقد قلنا وشرحنا كيف أن مليشيات الجنجويد المجرمة تمثل أعلى سنام الأيديولوجيا الإسلاموعروبية الفجة والقحة، المجافية والمخالفة لكل روح العصر والمنهزمة ذاتياً. والمقال متاح في الإنترنت فليُراجع في مظانِّه.
***
ومن ضمن هذا الإفك ما طالعناه من خريطة للسودان (مرفقة) تظهر فيه أقاليم ما تبقى من السودان بعد انفصال الجنوب وهي مفككة عن بعضها البعض، ما يشير إلى قرب انهيار مؤسسة الدولة الوطنية السودانية الحديثة.
وما كان هذا ليهُمُّنا في شيء لولا أن بلغت الجرأة على التكذب والتلفيق حد أن يُكتب عليها “السودان الجديد” هُزءا واستخفافا.
***

وكما يعلم الكثيرون، هذه الخريطة نفسها هي التي ظلت جماعة دولة النهر والبحر تتداولها منذ أكثر من عامين قبل الحرب، لكن دون أن تبلغ بها الجراءة على التكذب والافتئات درجة أن يطلقوا عليها مسمى “السودان الجديد”. وطبعا لكل من يعرف مجموعة “دولة النهر والبحر” الوهمية، يعرف عنها انها حركة عنصرية جنجويدية بامتياز، لا تكره شيئا كما تكره أفريقيا السوداء والأفارقة جميعاً. وهي حركة كيزانية أسسها الكيزان أخريات أيامهم بغرض تطبيق نموذجهم المتمثل في تفكيك السودان مع الإبقاء على مثلث حمدي الذي هو في حقيقته مثلث الترابي بوصفه عرّاب هذه الفكرة غير الوطنية.
***
هؤلاء، مثل مليشيات الجنجويد بالضبط، هم الأفارقةُ السود، كارهو ذواتهم وأنفسهم، لأنهم هم أنفسهم أفارقة سود مستعربون، ليس إلا.
ولذا لا عجب أن أصبحنا نرى قيادات من الجنجويد، ممن يحسبون أنفسهم واهمين بأنهم عرب العرب، وهم يتداولون هذه الخريطة، ممنين أنفسهم بالاستفراد بحكم دارفور، ولكن هيهات!
***
ما لا يعلمه الجنجويد ومن شايعهم من شذاذ الآفاق أنه بمجرد تفكيك الدولة الوطنية السودانية، وبروز دارفور كإقليم يقف لوحده بلا دولة، سوف يظهر مخرجو الفيلم الحقيقيون، ألا وهم قوى الإمبريالية العالمية بشقيها لتقسيم الإقليم على هواهم. وهنا علينا أن نستعرض الحقائق على الأرض في دارفور.
***
فاللاجئون الدارفوريون من مجموعات الزرقة في تشاد وغيرها يبلغ عددهم حوالي 3 مليون؛ وكذلك النازحون الدارفوريون من مجموعات الزرقة داخل دارفور يبلغ عددهم حوالي 3 مليون؛ أما ما تبقى منهم ولا يزالون يعيشون في المدن والقرى فيبلغ عددهم حوالي 4 مليون. أي ما جملته 10 مليون من الزرقة. في المقابل، جميييييع المستعربين في دارفور وكردفان ممن يتوهمون بأنهم عرب العرب لا يتجاوز عددهم 3 مليون، والسبب معروف، فنسبة الخصوبة تقل بين المجموعات المتبدية، المترحلة، غير المستقرة، لجملة أسباب وعوامل لا مجال للخوض فيها في هذه العجالة. هذا بينما تزيد نسبة الخصوبة في المجموعات المستقرة، غير المترحلة. انظر لزيادة عدد السكان في مصر وإثيوبيا والصين، مقابل قلة عدد السكان في حزام السودان من البحر إلى المحيط.
***
وعليه، أيهما أكثر فائدة وأيسر إدارةً لقوى الإمبريالية العالمية حال إقبالها على تقسيم وتجزئة دارفور عندما تنجح مساعي قوى الإمبريالية هذه في تسييل مؤسسة الدولة الوطنية السودانية، على غرار ما قامت به في مؤتمر برلين عام 1885م عندما قامت نفس هذه القوى الإمبريالية بتقسيم العالم الثالث فيما بينها: المجموعات الجنجويدية المستعربة قليلة العدد التي لا تعرف معنىً لنظامية الدولة order of state، والتي تعيث فسادا أينما حلت، بجانب مسئوليتها الجنائية والتاريخية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يندى لها الجبين، أم المجموعات الأفريقية كثيفة العدد بما يفوق ثلاثة أضعاف المجموعات الأفريقية المستعربة، ثم هي فوق هذا مدنية الطابع وتعرف كيف تعيش تحت نظامية الدولة كما تعرف كيف تزرع وكيف تعمل، ثم فوق كل هذا هي التي وقعت عليها جميع الجرائم المشار إليها أعلاه؟
***
المنطق والتاريخ المعاش والمعاصر يقول بأن قوى الإمبريالية العالمية سوف تتخذ من هذه الجرائم مسوّغا للتدخل وإعادة ترسيم خريطة دارفور بطريقة تحول دون تكرار واستمرار هذه الجرائم (وهي جرائم ليس في مقدور مليشيات الجنجويد التوقف عنها نُشدانا منها لنظامية الدولة، ما يعني عدم قدرتها عن التوقف إلا بالردع العسكري)، ثم بناء نظام الدويلات المشيخية الصغيرة (على غرار دويلات الخليج مثل الإمارات وغيرها). هنا قد يتم حشر المجموعات الأفريقية السوداء المستعربة (التي قد يتم تحميلها مسئولية جرائم مليشيات الجنجويد) في كانتونات صغيرة، لا بغرض تأمين إدارتها، بل على العكس بغرض دفعها إلى التمرد بحكم نظمها الاجتماعية والاقتصادية وحاجتها إلى المراعي، جانباً عن تماهيها اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا في نمط الحياة الجنجويدية القائم على الفوضى ونزعة تسييل أي ملامح لمؤسسة الدولة. هنا يمكن لهذه المجموعات (تحت قياداتها الجنجويدية) أن تصنع الشروط المنطقية للتنكيل بها (لكن طبعا دون استئصال شأفتها توفيرا لها لأدوار مماثلة في المستقبل متى استدعت الحاجة لذلك). هذا التنكيل الممنهج من الممكن أن يأتي مبررا ومشرعنا بقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الافريقي، من قبل ذات القوى الامبريالية العالمية التي رعت هذه المليشيات المجرمة واستخدمتها لتقوم بأقذر الأدوار من حيث ارتكابها لأفظع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من إبادة واغتصاب ودفن الناس أحياء وحرقهم أحياء ثم مطالبة ذويهم الذين لم يقتلوا أو يحرقوا بعد بأكل لحمهم المشوي. فكما قلنا ورددنا كثيرا، قوى الإمبريالية هذه بغربيّها وشرقيّها مجرد شر مستطير لا خير يرجى منها!
***
هذه هي نوع الجرائم التي تغض الطرف عنها قوى الإمبريالية العالمية طالما أنها تؤدي إلى أوضاع ملائمة convenient لها من حيث التدخل لاحقا، لكن مع التشديد على تنكيرها واستنكارها لهذه الجرائم بعد ذلك. ودونكم التاريخ المعاصر: انظروا كيف صنعت قوى الإمبريالية طالبان ثم حاربتها؛ ثم انظروا كيف صنعت داعش وحاربتها؛ وكيف صنعت حماس وحاربتها؛ وكيف صنعت جميييييع حركات الهوس الديني بين الشعوب المسلمة (ومن ضمنهم كيزان السودان)، ثم كيف جاءت بأُخرةٍ وحاربتهم جميعا بعد استنفادهم للأغراض التي من أجلها قامت باصطناعهم.
***
لماذا ستفعل قوى الإمبريالية العالمية هذا بمليشيات الجنجويد ومن والاها عن غباء أو عن طمع أو عن نزعة إجرامية أو عن توهم بالانتماء الإثني؟ ببساطة لأنها تعرف جيداً أن الجنجويد عبارة عن “جنا مرفعين”، إذا قمت بتربيته، فإنه سوف ينتهي بأن يحاول أن يأكلك! ثم إن قوى الإمبريالية العالمية سوف تجد نفسها أمام خيارين، أحدهما أمرّ من العلقم، والآخر أحلى من العسل. الخيار المر هو محاولتها تدجين المرفعين؛ وتاريخ علم الحيوان وتاريخ السودان نفسه يؤكدان لنا أنه يمكن تدجين جميع الحيوانات، بما في ذلك الحيوانات المفترسة، ما عدا الضبع (المرفعين) والتمساح. فإذا قمنا بتطبيق هذه القاعدة على البشر عندنا في السودان (دونما أي زعم منا بالتماثل بين البشر والحيوانات، إن هو إلا مجرد مثال)، أمكننا أن نقول بكل اطمئنان إن مليشيات الجنجويد، بحكم طبيعة نشأتها وانطباع ممارستها وركوزها عميقاً في جِبِلّتها المليشيوية، ليس فقط لا يمكن أن تخضع مرة أخرى لنظامية الدولة، بل إنها أصلا لم تخضع، وسوف تعمل بحكم طبيعتها هذه على تسييل مؤسسة الدولة، أي دولة، هذا ما لم يتم كسر شوكتها العدائية هذه لمؤسسة الدولة وللحياة الآمنة التي توفرها للمواطنين نظامية مؤسسة الدولة.
***
وبالطبع، على الوجه الأفضل، ينبغي أن يكون من ضمن هذه العملية الضرورية لكسر شوكة العدوانية اشتمالها على إجراءات تحرير المجموعات الثقافية التي تم اختطافها من قبل الأيديولوجيا الإسلاموعروبية لمليشيات الجنجويد، ذلك حتى تستعيد هذه المجموعات تماسكها الثقافي بوصفها جزءا من الكل الثقافي لدارفور خاصةً ثم للسودان عامةً. وهذا ضمن ما يعرف بإجراءات العدالة الانتقالية التي لا تُعفي الأفراد من العقاب والمساءلة متى ما قام الدليل، كما لا تسمح بالاحتفاظ بأي امتيازات ناجمة عن الجرائم المرتكبة.
***
وكما أشرنا أعلاه، لا يعني قولنا هذا أن قوى الإمبريالية العالمية سوف تستأصل شأفة مليشيات الجنجويد، ذلك لأنها قد تحتاج لخدماتها في أي لحظة لاحقة قد يتطور فيها وعي وطني يهدد الوجود الإمبريالي في أي جزء من أجزاء الدولة السودانية التي تكون قوى الإمبريالية قد نجحت في تسييلها عبر تسخيرها للنزعات الفوضوية الراكزة عميقاً في جِبِلّة مليشيات الجنجويد. وهذا لعمري الدرك السحيق الأسحق الذي ما بعده مُتَدارَكٌ في إلغاء إنسانية الإنسان dehumanization، مما عُرفت به قوى الإمبريالية وممارسته ولا تزال، حيث يتم تحويل مجموعة من البشر إلى مجرد حيوانات بشرية مبرمجة (والعياذ بالله)، دورها هو التخريب والفوضى، متى ما لم يتفق الوضع القائم مع مصالح قوى الإمبريالية. ولهذا ينبغي في مشروعنا الوطني لمجابهة مخططات قوى الإمبريالية العالمية (بغربيّها وشرقيّها)، ألا نقع، نحن أنفسنا، كضحايا لعِماية الغضب والنزوع إلى التشفّي مما فعلته فينا مليشيات الجنجويد المجرمة، ذلك بأن تنصرف أنظارنا عن حقيقة أن مليشيات الجنجويد في مبتدأ أمرها ليست سوى صناعة كيزانية محلية، غير راشدة، لكون أن الكيزان في عمدة مشروعهم الأيديولوجي الإسلاموعروبي لا يؤمنون بمؤسسة الدولة الوطنية الحديثة، وبالتالي لا يؤمنون بما تعنيه القيم الأساسية لمؤسسة الدولة الوطنية والمحرم انتهاكها نهائيا إلا من باب الخيانة الوطنية. وما هذا إلا لأن انتهاكها سوف يفضي لا محالة إلى تهديد تماسك مؤسسة الدولة الوطنية التي تأسست بموجب اتفاقية ويستفاليا عام 1648م.
***
هذه القيم هي ذاتها مناط المقولة المعروفة “دولة ذات حدود جغرافية معترف بها، ومستقلة وذات سيادة”! ويمكن تلخيص هذه القيم الثلاث الأساسية في الآتي:
أولاً: الشعب، لأنه مصدر السلطات في الدولة الوطنية التي تقوم على المواطنة بصرف النظر عن المعتقد أو العرق أو الوضع الاجتماعي. وقوام هذه الحرمة هو ضرورة ألا يشعر أي فرد من الشعب داخل دولته بالخوف على نفسه من الدولة طالما لم يرتكب جرما، ذلك دون المساس بحقوقه الأساسية. وقد رأينا وعايشنا كيف نسف الكيزان هذه الحرمة المقدسة من حرمات مؤسسة الدولة الوطنية وارتكبوا الإبادة المنظمة التي شهد عليها العالم كله. وقد تمكنوا من فعل ذلك عبر استخدامهم لنفس مليشيات الجنجويد المجرمة هذه، هذا ضمن عدد لا حصر له من المليشيات الحكومية الأخرى؛
ثانياً: المال العام، ذلك لأنه مال الشعب، وما تصرّف مؤسسة الدولة فيه إلا من قبيل تصرّف المؤتمَن على الأمانة. وقد رأينا كيف قام الكيزان بنهب المال العام، وكيف أكلوا مال السحت، ذلك لأنهم تعاملوا مع مؤسسة الدولة الوطنية على أنها كلنت فيئا أفاءه المولى عليهم، فضلّوا بذلك ديناً ودنيا، وباؤوا بخسرانٍ مقيم لا يفارقهم إلى أن تقوم الساعة. كل ذلك لأنهم في عمدة مشروعهم الأيديولوجي الإسلاموعروبي الخاسر لم يكونوا يؤمنون، و يزالون لا يؤمنون، بمؤسسة الدولة الوطنية؛
ثالثاً: الأرض! إذ لا توجد دولة وطنية مستقلة وذات سيادة دون أن تكون لها أرض محددة ومعترف بها من قبل الدول الأخرى. وفي قيم الدولة الوطنية الحديثة، من يفرط في شبر من أرض الدولة الوطنية، لا يمكن ولا يجوز أن يؤتمن على باقي الأرض. وقد رأينا كيف فرط الكيزان في الأرض، سماحا لكينيا باحتلال مثلث إليمي مقابل عدم إيواء المعارضة؛ وكذلك السماح لمصر باحتلال مثلث حلايب حتى لا تقاضيهم دولياً على تآمرهم لاغتيال رئيسها وقتذاك؛ ثم رأيناهم كيف دفعوا الجنوب دفعا للانفصال، ذلك عندما أعطاهم إعلان المبادئ في نيفاشا (1998م) خيار دولة موحدة غير دينية، أو دولة دينية مع إعطاء الجنوب حق تقرير المصير، فكانوا أن اختاروا بكامل انعدام، ولو ذرة من الوطنية والفهم المواكب لقيم العصر، خيار دولة دينية فاشلة ولو أدى ذلك إلى تفتيت السودان. وهكذا انفصل الجنوب الحبيب، أي ثلث البلاد ومعه فقدنا 80٪ من مواردنا البترولية، فتصوروا!
***
وعليه، ما نعيشه اليوم هو امتداد، ليس فقط لهذه السياسات غير الرشيدة، بل لهذه الأيديولوجيا الإسلاموعروبية التي حاربت، ضمن ما حاربته، كلا الثقافتين العربية والإسلامية السمحتين، ذلك ضمن محاربتها لمجمل الثقافات والمجموعات الثقافية السودانية. وإنه من باب الأمانة الفكرية والسياسية أن نقول بأنه لا نظام الإنقاذ ولا مليشيات الجنجويد هي المسئولة عن الإتيان بهذه الأيديولوجيا الغاشمة، بل كلاهما استمرار تطوري غير بناء لهذه الأيديولوجيا الإسلاموعروبية التي ظلت تعمل على تفتيت مؤسسة الدولة الوطنية وتحول دون تبلورها وتطورها منذ خمسمائة عام، ذلك بقيام السلطنة “الزرقا” (بمعنى “السوداء” وليس “الزرقاء”)، ذلك عندما تم تدشين كلا الثقافتين العربية والإسلامية السمحتين كلاعبين أساسيين في ملعب تفاعل الثقافات السودانية الكريمة مع بعضها البعض حتى أعطانا جماع ذلك ما نصفه بالقيم السودانية التي شهد بها الغرباء قبل أهل الدار.
***
ولكن بما أن الأيديولوجيا (حسبما هي ناشطة في الفضاء السوداني) هي عبارة وعي وائف يعمل على تزييف الواقع بخلق الوهم والتصورات الواهمة عنه، أي، بكلمات أخرى، بوصفها على أنها عبارة عن فيروس Virus يستهدف الثقافة ويتخفى داخلها بغية تجريدها من جمالياتها ريثما يقوم بقتلها (ولكن هيهات)، فإن الأيديولوجيا الإسلاموعروبية قد بدأت منذ ذلك الحين تلعب دورها في تسميم تنوعنا الثقافي والاجتماعي والسلالي. كيف فعلت ذلك؟ فعلت ذلك عندما أصبحت الأيديولوجيا الإسلاموعروبية جزءا من علاقات السلطة Power Relations. فقد رأينا، بل ولا زلنا نرى ونعايش، كيف أصبحت الأسلمة والاستعراب (بوصفهما أدوات أيديولوجية وليست ثقافية) شرطا لازبا ولازما من شروط احتياز السلطة والثروة. وهكذا شهدنا، ولا نزال نشهد، كيف تكالب السودانيون على الأنساب العربية بالحق أو بالباطل؛ وكيف تأسلموا، ولو لم يُسلموا وقتها وبعد، نُشدانا منهم للسلطة والثروة.
***
وهكذا بدأنا قبل 500 عام بأن حكمنا رجلان أفريقيان أسودان عربوفونيان، على غالب حكمتهما ورزانة ورجاحة عقلهما، إلا أنه غالباً ما لم يكن أحدهما على أقل تقدير يتكلم العربية إلا معاظلةً (عمارة دونقس وعبدالله جماع ومن تبعهما بإحسانٍ إلى يوم الناس هذا) إلى أن انتهينا إلى أن يحكمنا رجلان أفريقيان أسودان عربوفونيان، على قلة عقلهما، وفقدانهما لكل مخايل الرزانة ورجاحة التفكير (الترابي وعمر البشير ومن تبعهما على الباطل إلى يوم الناس هذا). فماذا جنينا من حصاد التَّباب هذا في مسار مؤسسة دولتنا الوطنية عبر هذه القرون الخمسة؟ انتهينا إلى أن يقف هذا الرجل الضال، الضليل (عمر البشير بوصفه حاكم البلاد وراعي العباد) ليقول: “الفوراوية إذا اغتصبها الجعلي [العربي]، هل هذا شرف لها، أم هو عيب”؟ وجانبا عن سياساته المستمرة بغرض إضعاف مؤسسة الدولة من قوات نظامية إلى مؤسسات عدلية إلى خدمة مدنية، ذلك باتباع سياسة التمكين من جانب وابتناء المليشيات من الجانب الآخر، اتصف الرجل بالغباء عندما وقف قائلاً من على أظهر المنابر: “حميدتي حمايتي”، فانقلب الأخير عليه، واصما نفسه بعدم الوفاء وواصما ولي نعمته بوفرة الغباء.
***
ختاما، قلنا ما قلناه أعلاه من باب أسوأ السيناريوهات والاحتمالات وعاقبة الحال والمآل مرحليا وليس نهائيا. ولكن، إذا تحدثنا عما ستنتهي إليه الأمور في عاقبة منتهاها، فإنه لا رادّ لأمر الشعوب، ذلك لأن إرادة الشعوب هي من إرادة الله. وقد حدثنا التاريخ المعاصر، ولا يني يرفدنا بالتجربة الماثلة بعد التجربة، بأنه ما من شعب تكالبت عليه قوى الإمبريالية (العالمية أو الإقليمية، مجتمعةً أو متفرقة، استفادةً منها من بعض التناقضات الداخلية)، ثم حمل الشعب عليها السلاح، إلا وخاب كيد المعتدين.
***
كما قلنا ورددنا مرارا وتكرارا، إن هذه الحرب ليست بين الجيش ومليشيات الجنجويد المجرمة، بل هي حرب قوى الإمبريالية العالمية (بشرقيّها وغربيّها) وعبر وكلائها الإقليميين (من إمارات وسعودية وإسرائيل ومصر ودول الجوار) متحالفةً مع كومبرادورات الإمبريالية المحليين (ربائب سحت منظمات المجتمع المدني من قبيل نخب دولة ما بعد الاستعمار: طبقة الأفندية مقطوعة الطاري، ناتجة نظام التعليم غير الوطني، بيمينها ويسارها – لا فرق إذ هما سِيّان، وجهان لعملة واحدة، ثم زعماء العشائر الاجتماعية، ثم زعماء الطوائف الدينية)، تتقدمهم جميعاً مليشيات الجنجويد بوصفها رأس الرمح، في عملية تسييل مؤسسة الدولة الوطنية.
***
ومن أسفٍ، مثلما رأينا، أن القوات النظامية (عبر قياداتها العليا التي تمثل رأس جبل الجليد) كانت إلى لحظة اندلاع هذه الحرب جزءا أساسياً في العمليات المنظمة الرامية لتسييل مؤسسة الدولة عبر المداومة على إضعافها بطريقة منظمة، إلى أن حاق المكر السيء بأهله، فاكتشفوا بعد فوات الأوان، أو يكاد، أن انعدام وجودهم يكمن في تسييل مؤسسة الدولة الوطنية. فكان أن انحازت القوات النظامية للشعب في معركة البقاء أو العدم، لكن بعد أن تضعضعت إلى حد الخشية من انهيارها.
***
هذه هي طبيعة الحرب الدائرة الآن في السودان! وهي حرب بين طرف واحد من جانب هو الشعب السوداني ضد عدة أطراف من الجانب الآخر، تبدأ بمليشيات الجنجويد المجرمة وتمر بالكمبرادورات المحليين، مروراً بالوكلاء الإقليميين وصولاً إلى مخرج الفيلم (الذي لا يظهر في الفيلم لكنه يظهر بعد الفيلم ليجني ثمار الفيلم)، ألا وهو هنا قوى الإمبريالية العالمية بشقّيها. أما من ينظرون إلى هذه الحرب بوصفها حربا بين مليشيات الجنجويد المجرمة ضد الجيش بوصفه جيش الكيزان (دون تكبد أي مشقة من جانبنا لنفي قيادة الكيزان لكلا الجنجويد والجيش)، فهؤلاء في أفضل أحوالهم هم الغافلون الواقعون تحت طائلة الماكينة الإعلامية الممولة إداريا من وكلاء الإمبريالية الإقليميين، وبالتالي يقعون تحت طائلة جائحة الغباء الأيديولوجي الذي لولا سيطرته على قطاعات اجتماعية كبيرة لما استمر حكم الكيزان لأكثر من عام إلى عامين، بدلاً عن ثلاثين عاما حسوما.
أما في أسوأ الاحتمالات فإن من يريدون أن يُوهموا الناس، ذلك بعد أن توهموا ذلك هم أنفسهم، بأن هذه الحرب هي بين مليشيات الجنجويد من جانب وبين جيش الكيزان من الجانب الآخر، فهم الجنجويد أنفسهم ومن والاهم من كومبرادورات قوى الإمبريالية، ربائب سحت منظمات المجتمع المدني الدولية وتوابعها المحلية.
***
وبعد؛
على ماذا التعويل؟ طبعا على الشعب السوداني! ذلك عندما يحمل السلاح ضد مؤامرات قوى الإمبريالية العالمية ووكلائها الإقليميين ثم ضد جيش كومبرادورات قوى الإمبريالية المحليين الذين باعوا وطنهم وشعبهم بثمن بخس.
هكذا حدثنا التاريخ المعاصر: ما من شعب استهدفته قوى الإمبريالية، مستفيدةً من تناقضاته الداخلية، ثم انتصر هذا الشعب على مؤامرات قوى الإمبريالية إلا إذا حمل السلاح!
فالشعوب التي استهدفتها قوى الإمبريالية ووقعت في خطأ ترك المواجهة لجيوشها، ثم انهزمت جيوشها تمااااااما وتحللت، هذه الشعوب تمكنت من الانتصار على قوى الإمبريالية عندما حملت السلاح. وبما أن انهزام الجيوش الوطنية لا يعني بالضرورة محوه جنودها وصف ضباطها وضباطها من الوجود، لذلك ما إن ينهزم الجيش حتى يتحول الى قوة مسلحة متلاحمة مع الشعب بمثلما يكون الشعب متلاحما معه: هذا هو الجيش الشعبي التحريري!
وبالطبع، أفضل الأحوال هو أن يتحقق هذا الالتحام والجيش لا يزال في كامل هيئته كجيش نظامي، ذلك بدلا من تحقق هذا الالتحام بعد انهزام الجيش. وهذه هي اللحظة التي يمر بها الشعب السوداني الآن، وهو ما يوجب تحقق تشكيل الجيش الشعبي التحريري الذي لا محالة سوف يهزم مخططات وتآمرات قوى الإمبريالية ووكلائها وربائبها المحليين من جيش الكومبرادورات.
***
أما مليشيات الجنجويد المجرمة، فهي كانت ولا تزال، أضعف الحلقات في هذه المنظومة التآمرية. فالمجرم مهما بلغت جرأته على الجريمة وتطبع بها وعليها، هو إنسان ضعيف ومنهزم في أعماق ذاته. كيف يكون شجاعا من يغتصب النساء ويقتل العجّز والأطفال ويستأسد على المدنيين غير المسلحين لمجرد أن السلاح بيده هو، لا بيد المدنيين؟ كيف يكون قويا من ينهب ويسرق ويعيث في الأرض فسادا، ثم يخدع نفسه بأنه يفعل هذا ليأتي بالديموقراطية وليخلص البلاد من فلول الكيزان، بينما الكيزان هم من يقودونه؟ ولإلحاق الإساءة بالأذى، فقد اقترفوا كل هذه الجرائم والموبقات وهم يصرخون: “الله أكبر”! وما اللهُ والشعبُ لهم إلا بالمرصاد في يومٍ قريب، يرونه بعيداً وما هو ببعيد.
***
أخيراً وليس آخرا، نقولها بالفم الملآن بالحق والوطنية التي لا يزيغ دونها البصر ولا البصيرة: سوف يستعيد السودان في يوم قريييب خريطته ذات المليون ميل مربع، ذلك متى ما تحرر من رِبْقة الأيديولوجيا الإسلاموعروبية الغاشمة وتحرر تماما من أوشاب الغباء الأيديولوجي الذي ركّبته تركيبا في قطاعات عريضة من الشعب، ليعود الشعب يعيش حياة الخير والجمال في فضاء الثقافات مولّدة الذكاء، تحقيقا لقيم: الحرية والعدل والسلام!

          *MJH*

كمبالا – 27 نوفمبر 2023م

التعليقات