للشعب السوداني خصائص لغوية طريفة ومتفردة فله فن في قولبة الهجاء، واحالته إلى مديح فهو ضربٌ من البلاغة الشعبية لا تدركها إلا الحاضنة التي تثمر مثل هذه الثقافة.
فشعراء البطانة عندما تصدوا لمشروع خشم القربة واعتراضهم على تحويل سهل البطانة من الرعي إلى الزراعة كان رأيهم صائباً، بل أن بعض النخب الاقتصادية اقترحت أن تقام مشروعات للرعي الحديث والانتاج الحيواني لأهل حلفا بديلا للمشروع الزراعي وليتهم فعلوا.
وعندما بدأت الخطوات العملية بإنشاء المشروع رغم اعتراض اهل حلفا واهل البطانة فإن شعراء هذا السهل الفصيح أدركوا أن كل الاعتراضات والممانعة ذهبت أدراج الرياح، وقد يئس كل الشعراء الذين تصدوا للمشروع من جدوى الاعتراض أمثال الفنجري وطه وود الشلهمة والصادق ود امنة والكثيرين من أندادهم.
وقديما كان العرب وحديثا من اهل الوسط عندما يصيبهم القنوط من تحصيل ما يحبون فإنهم يودعونه بالهجاء رغم المحبة، ومن الأمثلة المشهودة في وداع البطانة:
الله يِقدك آم قشن بقوم ريقان
وجابولك حديدا غرق السيسان
كان حِضروكي ناس ود اب علي وحسان
ما بدوكي لي فخري اب عيونو مُكان
وفخري هذا أحد مهندسي المشروع، فالرجل رغم دماثة خلقه فقد صب عليه الشعراء جام غضبهم ترميزا وتنفيسا.
ومن العادات اللغوية المتداولة أننا نستعمل بعض الصفات التي في ظاهرها مذمومة في سياق المدح والاعجاب فنطلق على صاحب المهارة والذي يأتي بانجازات ليست متاحة لعامة الناس بأن فلان كارثة أو ود حِنوت أو شِفِت أو مسلّط وغيرها كثير.
ومن الحكايات التي أذكرها في هذا المقام أن صبية جميلة وذات حسن وظرف كانت تعيش في إحدى فرقان الريف، وكانت مسار اعجاب الجميع، لكنها تأبت على عريس شاب متواضع الامكانات من اهلها، واختارت تاجر محاصيل غريب وكبير في السن ومعدد، لكنه صاحب ثروةٍ وسعة. تزوجها وقام بترحيلها بعيدا فأنشد زامر الحي الذي يطرب في يوم رحيلها -والرحيل مناسبة يتغنى لها اهل السودان خاصة لبناتهم اللائي يغادرن بعيدا – وليس بعيدا عن الاذهان أغنية الراحل مصطفى سيد احمد المقبول في بواكير تجربته الغنائية (السمحة قالوا مرحلة) قال زامر الحي مودعا:
الله يخربك آلسمحة الرحلتي صعيد
والله يخربك آلمهرة الطعنتي الريد
والله يخربك آلماهله الضربت العيد
والله يخربك آلجافلة الكسرتي القيد
ومن هذا الباب أخذت مفردة (المشاترة) وهو التصرف المتمرد على العقلانية والواقعية الموغلة في الحسابات والتمهل غير المجدي، مثل المثالية التي اتبعناها للتصدي لاعداءنا في أيام النكبة فقد غادرنا مهطعين وتركنا وراءنا كل ما نملك بل كل ما يملك السودان.
ومن البشارات المنقوصة أن عادنا هذه الأيام بعض الزهو والفرح ونحن نرى شعبنا قد عاد إلى تمرده الكاسح الذي يقضي إن شاء الله على أخضر ويابس الأعداء والخونة والعملاء بهذه المشاترة الحميدة التي يمارسها الشعب تحديا بجيشه ومقاومته الشعبية وشبابه وطاقاته الكامنة التي تفجرت قمحاً ووعدا وتمني.
رحم الله محمد المكي ابراهيم الذي غادر الساحة إلى الرفيق الأعلى دون أن يشهد انتصار شعبه قبل مجئ النصر وقبل اطلالة اكتوبر الأخضر
الشعب الرزين قامت عليهو شتارتو
والخاين هرب خلى المطار وسرايتو
وين الاشترى وحق السمسرة وسيد ابوك ودَبارتو
دق العيش تشوف وتغربلك ضرّاياتو
والبيت الأخير استعملت فيه التركيب اللغوي لأهلنا الادروبات (دق العيش تشوف) وهم دائما يأخرون الفعل ويحولون المفعول به إلى مبتدأ والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت.
وتحياتي المفعمات بالحب لاهلنا بالشرق الذين استضافوا كل السودان في ديارهم واقتسموا معهم اللقمة والأرض والبحر وسعة الأخلاق وفيوضات المعاني والمباني. ولذلك حقت العبارة وصدقت (الشمس تشرقُ من هنا) وكذلك السودان القادم سيشرق من هناك.
التعليقات