بسم الله الرحمن الرحيم
في البدء، التحية للشهداء، والتحية للجرحى، والتحية للثكالى والأرامل والمفقودين، والتحية لليتامى، والتحية لكل من فقد عزيزًا في هذه الحرب المدمرة. التحية لكم جميعًا أبناء وبنات وطني الأعزاء.
نخاطبكم اليوم ووطننا يشهد نزيف دم ودمار غير مسبوق امتد زهاء العامين، في حرب لم تترك لنا عزة ولا كرامة، بل تركت شعبًا بأكمله بين مشرد ولاجئ ونازح تاركًا وراءه بحارًا من الدم وأحاديث يندى لها الجبين من القتل والسحل وقطع الرؤوس وبقر البطون والاغتصاب والتجويع الممنهج والقتل بسبب الهوية والجهة. ورغم كل الذي حدث، لا يزال هنالك من يسعى لإشعال المزيد من الحرائق وصب المزيد من الزيت على النار وبث الفتنة والتشجيع والتحريض على قتل المزيد من الأنفس وتدمير ما تبقى من بنى تحتية. ورغم بعض الاستجابة التي نقدرها من الأسرة الدولية، لكن تبقى الكثير جدًا مما بالإمكان فعله لإيقاف هذا الدمار.
الشعب السوداني الصابر،
إن ما يحدث للسودان اليوم هو بلا شك محاولة لطمس تاريخ وهوية شعب كريم أبي ذي هوية متجذرة تعود إلى آلاف السنين. قد ظل الشعب السوداني منذ أن نال استقلاله يرفض القهر والذل، ثائرًا ضد كل الديكتاتوريات، مطالبًا بالحرية والديمقراطية والعيش الكريم، مقدمًا في سبيل ذلك مئات الآلاف، بل الملايين من الشهداء.
لقد كانت ثورة أكتوبر ١٩٦٤م التي تتنسم ذكراها اليوم من أبرز المحطات النضالية المشرقة، تلتها انتفاضة أبريل ١٩٨٥م، ثم كانت ثورة ديسمبر ٢٠١٨م، التي جاءت لتؤكد إصرار الأجيال المختلفة على السير في هذا الدرب مهما كانت التضحيات، وأن شعبًا بهذا الإصرار لن تنكسر عزيمته ولن يتراجع عن مشروع التحرر والانعتاق مهما فعلت به قوى الظلام ومن يقف خلفها.
أبناء وبنات وطني الأعزاء،
في ذكرى ثورة أكتوبر وبعد مرور ستين عامًا، لا يزال الأحرار من بنات وأبناء السودان يستميتون في سبيل تحقيق حلمهم الكبير في بناء وطن حر، ديمقراطي، موحد يسع الجميع ويحترم تنوعهم ويحترم إنسانيتهم ويوفر لهم العيش الكريم على ظهر هذه الأرض المعطاءة.
ولم نكتفِ نحن في تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) بتبيين موقفنا الرافض للحرب والمدافع عن حق كل سوداني في العيش الكريم، بل وضعنا مشروعًا كاملًا لبناء السودان الحلم. وبينا رؤيتنا لكيفية وقف الحرب وإعادة المسار الديمقراطي. وكانت أبرز مرتكزات هذه الرؤية:
أولًا: –
أن الأزمة السودانية، أزمة معقدة لا يمكن حلها عبر المنهج الاختزالي القاصر الذي يرى الحرب الحالية على كونها حرب جنرالين، فلابد لمن يبحث عن حل مستدام أن ينظر في جذور الأزمة ويتعمق في فهم الأسباب التي حولت البلاد إلى مسرح دائم للصراع المسلح منذ فجر الاستقلال في العام ١٩٥٦م.
ثانيًا: –
إن مسؤولية الوقف الفوري للحرب تقع على عاتق السودانيين، وهم الأجدر والأدرى بالأسباب الحقيقية لتفجر هذه الصراعات. وهذا لا ينفي الدور العظيم المرجو من الأصدقاء والأشقاء في المحيط الإقليمي والايقاد والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية والأمم المتحدة وكل الأسرة الدولية والشعوب المحبة للسلام. نأمل أن تقوم هذه الأطراف بالضغط الحقيقي على الشقين المتحاربين لوقف نزيف الدم والعودة إلى المسار التفاوضي.
وفي هذا الصدد، نعيد ونؤكد قناعتنا بأن هذه الحرب لن تُحل بالبندقية ولن ينتصر فيها أحد مهما طال أمدها، وأن مائدة التفاوض هي المكان الوحيد الذي يسمح بحلها.
كما نُعيد تذكير المجتمع الإقليمي والدولي أن البلاد ظلت في حالة فراغ دستوري كامل إذ لا توجد حكومة شرعية في السودان منذ انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠١٢م، وأن إعطاء شرعية لحكومة الأمر الواقع لن يساعد أبداً على إيجاد حل لهذه الحرب.
ثالثاً:-
ضرورة بناء جبهة مدنية تضم أوسع طيف من القوى المدنية التي تؤمن بالوطن وتؤمن بالسلام وتنبذ الحرب وتؤمن بسودان الحرية والسلام والعدالة والحكم المدني الديمقراطي.
رابعًا:-
نرى أن الحل المستدام للأزمة السودانية لن يتأتى إلا بوضع خطة شاملة تخاطب الأسباب الحقيقية التي أدت إلى اندلاع الحرب وتوضح معالم الرؤية المستقبلية لما بعد الحرب، ولذلك لا بد من تصميم عملية سياسية موحدة، ذات مسارات متعددة تعمل في آن واحد في وقف العدائيات، ومعالجة الأزمة الإنسانية والحوار السياسي وإعادة البناء وإنشاء آلية مراقبة على الأرض تراقب الخروقات من الأطراف المتصارعة.
خامسًا: –
أن أولى خطوات إعادة البناء الاجتماعي والسياسي والسلمي للوطن هو بناء منظومة عدلية متكاملة تضع البلاد في مسار سيادة حكم القانون وتضع كل من أجرم في حق الوطن والمواطن أمام العدالة وتعمل بجد لإنهاء واقع الإفلات من العقاب الذي شجع متعطشي الدماء المهووسين على ارتكاب كل هذه الفظائع في حق الشعب السوداني المسالم.
أيها الشعب السوداني الكريم،
في الختام، يظل عهدنا لكم ومعكم أن نظل أوفياء لهذا الوطن ولدماء شهدائه الذين ارتقوا في معارك الدفاع عن الحرية والسلام والعدالة، والذين هتفوا بمختلف اللغات واللهجات والألسن منادين بالسودان الوطن الواحد، والذين جعلوا شعارات العدالة واحترام التنوع نغمة ترددها الأجيال، جيلاً بعد جيل.
نتعاهدكم على ألا نحيد عن هذا الدرب، ونحن نستلهم الذكرى الستين لثورة أكتوبر المجيدة التي غرست فينا حب الوطن والاستعداد الدائم للتضحية بأغلى ما نملك في سبيل ذلك. ونحن موقنون أن ذلك اليوم الذي ستنتصر فيه إرادة الإنسان السوداني الحر كي يبني مجتمع الحرية والسلام والعدالة قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
رئيس الهيئة القيادية لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم”
٢٠ أكتوبر ٢٠٢٤م.
التعليقات