تارا نيوز: هدباء مجذوب
هناك كتب لا تقرأها فقط، بل تسكنك. تتغلغل بين أضلعك، وتُعيد تشكيلك من الداخل. وكتاب خارج جغرافيا المكان للكاتبة ملاذ عوض، ليس مجرد مجموعة قصصية، بل مرآة تفتح لك بابًا ترى فيه ذاتك تائهة بين الوطن والمنفى، بين الحب والفقد، وبين الواقع والحلم.
منذ وقعت عيناي على العنوان و انا أردده في سلواي ونجواي، تشعر وكأنك مدعو للخروج من خارطة عادية، إلى جغرافيا الروح، حيث المدن ليست شوارع ومبانٍ، بل لحظات وذكريات ووجوه عابرة وأصوات باعة جوالين وروائح خبز الصباح الممتزجة بحلم العودة.
في نصوصها، تحترف ملاذ كتابة التفاصيل الهاربة؛ تلك التي نظنها عابرة بينما هي الحقيقة الأكثر رسوخًا في وجداننا. من ضجيج السوق العربي إلى هدوء جزيرة توتي، ومن أصوات الفريشة إلى وجع المهاجرين في محطات المطارات الباردة، قصص ليست حكايات تُحكى بلسان، بل أغنيات تتسرب من بين الأصابع، فتتبعها دون وعيٍ إلى حيثُ تبدأ الحكاية… ولا تنتهي.
الكتابة عندها لم تكن فقط رفاهية، بل نجاة.
مليئة بالأمل رغم الغصة، والضحكة رغم الدموع. شخوصها أبطال بلا بطولة، أناس يشبهوننا تمامًا، لبرهة من الزمن تقول “كيف تعرف كل هذا عني” يبيعون الكسرة على الأرصفة، ويهربون من ألم الوطن إلى المنافي، ويعودون إليه رغم كل شيء، لأن الحب أحيانًا هو أن تبقى، حتى لو جرّحك البقاء.
الوطن في “خارج جغرافيا المكان” ليس خارطة تُعلّق على الجدران، بل جغرافيا صغيرة تنبت في القلب: محطة مواصلات مزدحمة، ورائحة عطر شخص تحبه مرّ بجانبك ذات صدفة، وأغنية تسرّبت من راديو قديم، وسؤالٌ عابر من صديق: “لسه بتحبي الأصفر؟”
تكتب ملاذ عن الوطن وكأنها تُمسك بيد طفلٍ خائف في سوق مزدحم، تطمئنه وتخبره أن الوطن ليس مكانًا فقط، بل رائحةُ القهوة على النار، ويدُ أمٍّ تُهدهد التعب في المساء، وضحكةُ جارةٍ تبيع الكسرة على الرصيف، وصوتُ عجلات دفار الشرطة وهو يعبر الكبري، يحمل وجوهًا نحفظها من عمق القلب ولا نعرفها.
“خارج جغرافيا المكان” ليس مجرد كتاب.. هو دعوة لأن نجد أوطاننا الصغيرة في تفاصيلنا اليومية، أن نُمسك بيد الحلم وإن كان هشًا، وأن نتعلم كيف نصنع من المرارة قصائد، ومن الألم حكايات تستحق أن تُروى.
هذا الكتاب، كما الوطن، لا يُختصر.. بل يُعاش.🤍💜✨
التعليقات