بقلم: عمر دمبا

القضارف: شرقي السودان

نزوح جماعي وأزمة إنسانية

وانا أبحث في جهاز اللابتوب الخاص بي، عن بعض الصور، وجدت ألبوم صور كامل أعادني بالذاكرة إلى أواخر عام 2020، عندما اندلعت الحرب بين الحكومة المركزية الإثيوبية وإقليم تيغراي، فاضطر أكثر من 70 ألف لاجئ إلى الفرار نحو السودان، فيما نزح قرابة مليون شخص داخل إثيوبيا.
القرى الحدودية الصغيرة مثل حمّدايت والهشابة التي لم تكن تتسع لأكثر من 1500 شخص، غصّت بعشرات الآلاف من الفارين، فانهارت الخدمات، وواجهت المنطقة أزمة صحية وإنسانية خانقة.

الطبيب اللاجئ الذي أعاد الأمل

في قلب واحدة من أكبر أزمات اللجوء بشرق السودان، وبين خيام اللاجئين المنهكة في القضارف، ووسط أزيز سيارات الإسعاف وصرخات الأمهات، كان هناك رجل واحد يشع بالأمل… الدكتور نقاسي تسقاي، الطبيب الذي اختار أن يكون في صف الحياة لا الهروب منها، والذي تحوّل إلى رمزٍ للرحمة والقيادة المُلهمة.
بجهوده الفردية ومبادرته الإنسانية الجريئة، أعاد الأمل إلى آلاف اللاجئين والمجتمعات المحلية، حتى لُقّب بـ “الطبيب الحبشي” تقديرًا لجهوده الاستثنائية.

في لقاء جمعني به بمدينة القضارف، كان الدكتور تسقاي يدير في الوقت نفسه العمليات الطبية الميدانية، ويتواصل مع المتبرعين لتأمين الأدوية، ويقدّم الدعم الفني عبر الهاتف لفرق الإسعاف.
كانت التحديات جسيمة: تفشي الكوليرا، وانتشار الأمراض التنفسية والفيروسية، وغياب علاج الأمراض المزمنة، وسوء التغذية، ومآسي الولادة والعمليات الطارئة.

تأسيس نظام صحي من الصفر

ردّ الدكتور تسقاي على هذه التحديات بإطلاق مبادرة إنسانية صحية شاملة تقوم على المرونة والاستدامة والمساواة في الحصول على الخدمات.
قاد حملات توعية، وأنشأ مجموعات دعم للمرضى، وطالب المنظمات الدولية بتوفير الدعم العاجل للمخيمات.

جهوده أثمرت عن شراكات فعالة مع منظمات عالمية مثل:

الجمعية الدولية لتحسين الوصول إلى الرعاية الصحية (ISBHA)

مؤسسة أسملاش غرانت (AGF)

شبكة المهنيين الصحيين من أجل تيغراي (HPN4Tigray)

وأسفرت هذه الجهود عن إنجازات ملموسة، أبرزها:

إنشاء عيادة ISBHA للرعاية الأولية التي تعالج 50–60 مريضًا يوميًا من اللاجئين والسودانيين.

غرفتا عمليات جراحية بإشرافه أنقذتا أكثر من 3,500 مريض.

عيادة الأمومة والطفولة التابعة لمؤسسة AGF التي تخدم 70 أمًا وطفلًا يوميًا في مخيم أم راكوبة.

مركز علاج الكوليرا الذي أنقذ حياة 165 مريضًا في حالات حرجة.

وحدة علاج سوء التغذية التي أعادت الحياة لعشرات الأطفال.

شهادات تقدير من قادة المجال الصحي

قالت الدكتورة تِغست هيلو، المتخصصة في الطب العائلي والرعاية التلطيفية، إن الدكتور نقاسي يتمتع بقيادة نادرة:

“ألهمني لإنشاء عيادة مجانية في مخيم الهشابة. بعد استشارته، خصصنا ميزانية وافتتحنا العيادة التي تعالج 60 مريضًا يوميًا من اللاجئين والمجتمع المضيف. قيادته واستراتيجياته في إدارة الموارد كانت مدهشة.”

من جانبه، أشاد محمد الهوي، رئيس مفوضية اللاجئين السودانية بالقضارف، بجهوده قائلًا:

“قدّم الدكتور تسقاي صورة حقيقية للقيادة الإنسانية. رغم استخدامه لسيارته الخاصة كإسعاف لنقل المرضى، طالب بتخصيص سيارات إسعاف لإنقاذ الأمهات أثناء الولادة. بفضله تعززت شراكاتنا وجهودنا المشتركة.”

كما قالت الدكتورة أنسام علوب، رئيسة المنظمات بوزارة الصحة في القضارف:

“كان الدكتور تسقاي طبيبًا وطنيًا مبدعًا ومتفانيًا. مبادرته لإنشاء مركز صحي بقرية الهشابة أنقذت آلاف الأرواح. سيذكره التاريخ بكل فخر.”

من الحرب إلى الأمل

في الثالث من نوفمبر عام 2020، اندلعت الحرب في إقليم تيغراي، فاضطر الدكتور نقاسي إلى اللجوء إلى السودان.
ورغم ظروفه الصعبة، بدأ منذ وصوله في بناء نظام صحي ميداني بالتعاون مع السلطات والمنظمات الإنسانية.
نسّق مع HPN وISBHA لتأمين المعدات الطبية، وساهم في إنشاء مدرسة للأطفال من الصف الأول إلى الثامن داخل مخيم الهشابة.

قائد إنساني برؤية عالمية

اليوم، بينما يستعد الدكتور تسقاي لمتابعة دراساته العليا في الولايات المتحدة، لا يزال على تواصل دائم مع زملائه في السودان، مدافعًا عن حقوق اللاجئين والمتضررين من الجوع والفيضانات والعنف.
لقد أصبح مثالًا للطبيب الإنساني الذي يجمع بين العلم والرحمة، وبين القيادة والرؤية.

إرث من الإنسانية

ترك الدكتور نقاسي تسقاي بصمة خالدة في تاريخ العمل الإنساني بشرق السودان، وأثبت أن الطب يمكن أن يكون رسالة إنقاذ تتجاوز الحدود والسياسة.
إنه بحق منارة أمل لآلاف اللاجئين الذين أنقذ حياتهم، أو منحهم الأمل في حياة كريمة من جديد.

ومن رحم المعاناة، كتب الدكتور نقاسي تسقاي فصلاً مضيئًا في تاريخ الإنسانية بشرق السودان، مؤكّدًا أن الطبيب الحقّ لا يحمل سماعته فحسب، بل يحمل ضميرًا يضخّ حياة في قلوب الآخرين.

التعليقات