في 16 نوفمبر 1988، وقّع الدكتور جون قرنق ومولانا محمد عثمان الميرغني في أديس أبابا اتفاقية تاريخية كان يمكن أن تغيّر مسار الأزمة في السودان بالكامل. وتضع أسس متينة غابت منذ الاستقلال في العام 1956م. الاتفاقية دعت إلى مؤتمر دستوري شامل في الخرطوم لمعالجة جذور الأزمة، وفي إطار السودان الموحّد. كانت رؤية الاتفاقية سودانية صافية تبحث عن دولة عادلة تتسع للجميع

ولكن عندما بدأت الاتصالات تنشط بشكل حثيث بين الحركة الشعبية والاتحاديين لجأت الحكومة حينها بقيادة السيد الصادق المهدي لتكوين حكومة ائتلافية ضمّت الجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي لقطع الطريق لاي تحرك ينتجه اتصالات الشعبية والاتحادي. وبعد توقيع الاتفاق في نوفمبر 1988م بشكل علني، عارضت الحكومة الاتفاقية بشدة والتي كان يُفترض أن تستفيد منها، وتضع نهاية للحرب في السودان، وكان يمكن الاستفادة من هذا التحالف (المهدي -الترابي) في الحكومة لتنفيذ اتفاقية قرنق–الميرغني، لكن الذي حدث كان العكس تماماً بالرفض والممانعة .

ومع اقتراب لحظة التنفيذ، وبيان تملص الحكومة بدأ ضغط النقابات والأحزاب يتصاعد لدفع الحكومة نحو السلام وتنفيذ الاتفاقية، بينما أخذت الجبهة الإسلامية موقفاً معارضاً للاتفاقية من داخل السلطة نفسها، مما أدّى إلى تعطيلها في لحظة كانت البلاد فيها في أمسّ الحاجة إليها.

وبدل الاستجابة للضغط الشعبي والسياسي نحو السلام، لجأت الحركة الإسلامية لتنفيذ انقلاب 30 يونيو 1989م على الحكومة التي هم كانوا طرفا فيها، سلّم الترابي السلطة إلى الجنرال عمر حسن البشير، لتبدأ بعدها سنوات الحرب الجهادية وحشد واستنفار الشباب وسياسة التمكين من ناحية وتغيير طبيعة الدولة.

دخل السودان عزلة دولية خانقة في التسعينيات وبشكل متسلسل، بحجة محاربة دول البغي والاستكبار العالمي. استضاف النظام أسامة بن لادن وكارلوس وغيرهم من الجماعات الجهادية التي شكلت خطر على الامن الإقليمي والعالمي، واتُّهمت الحركة الإسلامية بدعم أو تسهيل تفجيرات سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام، وتفجير المدمرة الأمريكية USS Cole في اليمن، وبلغ التوتر ذروته بمحاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا .

وفي الداخل، رسّخت الحركة الإسلامية قبضتها على مؤسسات الدولة: فصلت آلاف المهنيين بحجج عدم مولاة النظام، فسيطرت على الخدمة المدنية وخاصة السلك الدبلوماسي، اخترقت الأجهزة الأمنية، وأدخلت دفعات كاملة من منسوبيها إلى الكلية الحربية، مما غيّر توازنات المنظومة الأمنية وتركيبة الدولة عموما.

انفجر لاحقا الإسلاميون على أنفسهم في ديسمبر 1999 في صراع «مذكرة العشرة»، حيث واجه علي عثمان ونافع وغازي صلاح الدين وغيرهم شيخهم حسن الترابي. وردّ البشير حينها بحلّ البرلمان وإقصاء من أتى به إلى السلطة الشيخ الترابي، وبدأ الانشقاق الكبير داخل الحركة الإسلامية.

وهنا تظهر المفارقة الكبرى التي يجب أن يعرفها القارئ الكريم، فالشيخ حسن الترابي—الذي عارض اتفاقية قرنق–الميرغني عام 1988 وأسقط المسار الذي كان يدعو للحل السياسي في السودان الموحّد—عاد بعد 13 عاماً ليوقّع مع قرنق مذكرة تفاهم في جنيف بتاريخ 20 فبراير 2001م تضمنت حق تقرير المصير!!!.
اتفاقية 1988 لم تتضمّن أي إشارة لتقرير المصير، لكن الحركة الإسلامية نفسها—شقّ الشيخ الترابي ثم لاحقاً شقّ البشير بقيادة غازي صلاح الدين—هي التي منحت قرنق حق تقرير المصير، الذي مهد لتقسيم البلاد!!!. ثم رسّخته نهائياً في اتفاق مشاكوس 2002م، وهو ما انتهى بانفصال جنوب السودان واستقلاله.

فهل لم يكن من الأفضل القبول باتفاقية الميرغني – قرنق التي كانت تبحث عن حل شامل في ظل السودان الواحد، بدلاً من ثلاثين عاماً من الحرب والدمار والتهجير والقتل والانقسام والتنازلات التي دمرت ما تبقّى من الوطن؟ من الذي فوّت تلك الفرصة التاريخية على السودانيين؟
وهل يمكن الوثوق في تقديراته ومواقفه… بل ونواياه… اليوم بعد أن رفض اتفاقية 1988 ثم عاد ووقّع لاحقاً على ما هو أبعد منها تأثيراً وخطورة على وحدة البلاد؟

واليوم، ومع رفض اغلب تشكيلات الحركة الإسلامية لمسار هدنة الالية الرباعية للأغراض الإنسانية، وحشد جميع كتابها وناشطيها ضدها وتصويرها كانّها خيانة وبل تصريح الحاج ادم يوسف علنا بانهم ضدها وضد وقف اطلاق النار ولو وافقت به قيادة القوات المسلحة (حكومة الصادق المهدي) يعود السؤال نفسه بقوة:
هل يتكرر السيناريو رفض اتفاقية الميرغني -قرنق؟ وهل نتوقع تغييرا او انقلاباً على السلطة إذا ما قررت قيادة الجيش القبول بالهدنة او التوجه ايجابا للتعاطي معها؟ وهل بعد عقد سنشهده من الحروب لاحقا ان تعود الحركة الاسلامية باتفاقية تقسيم جديدة على السودان ؟ أم نتعلم أخيراً من تاريخ دفع السودان ثمنه كاملاً؟

مبارك أردول
19نوفمبر 2025م

التعليقات