محمد الأمين عبد النب
… لم تكن الحرب التي تدور في السودان منذ منتصف أبريل 2023 صدفةً، بل هي تراكمُ الأخطاء والخيبات، والتركةُ الخبيثة للشمولية، والثمنُ الباهظ لخطيئة انقلاب الإنقاذ بتغلغل الحركة الإسلامية كتنظيمٍ أيديولوجي، رهن مصير أمة كاملة ببقائه في السلطة. جاءت ثورة ديسمبر لاستعادة الدولة وفق مقاصد واضحة: “حرية، سلام، وعدالة”، ولكن هذه التجربة وُئدت بانقلاب أكتوبر 2021 نتيجة التهاون مع خلايا النظام المباد، التي أدركت أن زوال سلطتها يعني نهايتها الوجودية، فقررت الحركة تحويل السودان من دولة مأزومة إلى جغرافيا محترقة.
لقد أثبتت الأيام أن التعامل مع الحركة الإسلامية كفصيل سياسي طبيعي كان وهماً قاتلاً؛ فالتنظيم الذي لا يؤمن بالمواطنة اختار مغامرة الدم كخيار أخير، مفاضلاً بين عودته للحكم على الأنقاض أو إحالة البلاد إلى رماد. فبعد فقدان الشرعية الانقلابية خلال ثلاثين عاماً، لجأت إلى استراتيجية إشعال الحرب لإجهاض الانتقال المدني الديمقراطي، وهذا الفعل يضعها تحت طائلة المسؤولية التاريخية عن جريمة الحرب؛ إذ وضعت الحركة مصلحة التنظيم فوق حق الشعب في الحياة، محوِّلةً السودان إلى ساحة لتصفية حساباتها مع التاريخ.
منطلقات الحركة الفكرية:
معلوم بالضرورة أن الحركة الإسلامية في السودان تستمد فكرها من جماعة الإخوان المسلمين، رغم أنها ترتبط بها بوثاقٍ غير محكم. ورغم التحولات الأيديولوجية وفق خصوصية الدول، فإنها، بلا استثناء، لم تتخلى عن أفكارها الراديكالية ووسائلها التعبوية وآلياتها العنيفة، وإن أجّلت ذلك في بعض الدول. هذه الحقيقة تؤكدها حرب 15 أبريل؛ فكل الأحزاب التي وُلدت من رحم الحركة الإسلامية السودانية، بكل مسمياتها التي اختلفت مع الحركة الأم، سرعان ما عادت وتبنت سرديتها للحرب واستمرارها؛ “فقد عادت حليمة لعادتها القديمة، والعرجاء لمراحها”. فكان دعم هذه الأحزاب أو الواجهات لثورة ديسمبر والتحول الديمقراطي لا ينبع من قناعة راسخة، وإنما كان تكتيكاً سياسياً، وأحد وسائل الصراع داخل أروقة الحركة. وبالتالي انخرطت في الجناية التاريخية التي تستلزم توبة نصوحا بالتخلي عن العنف الأيديولوجي.
وفي سنوات الإنقاذ كانت الصفة الملازمة للحركة الإسلامية هي الفساد، وعلى حد قول الدكتور التجاني عبد القادر: “القبيلة والمال والأمن هم مكونات فشل التجربة السودانية، فكانت حركة واعدة جداً أفرغتها السلطة من مضمونها، فصار لفظ إسلامي في السودان الآن يرتبط بالفساد”. أما في ظل هذه الحرب، فقد ارتبطت الحركة الإسلامية وواجهاتها بالإجرام والدم والفوضى، وتقتيل وتهجير السودانيين من أجل استعادة سلطتها بالكامل، وهو ما يكشف نواياها الاستبدادية بعد الحرب. وكما قال غرامشي: “الوسيلة التي تصل بها إلى السلطة تحدد طريقة تعاملك معها”، إذ تعود بذات الأسلوب العنيف والتوجه الأيديولوجي والشعارات الاستعلائية، دون تصور عملي أو محدد للتطبيق؛ فالهدف هو الوصول إلى السلطة والتمكين.
موبقات الحركة الإسلامية:
الحركة الإسلامية ليست تنظيماً طبيعياً، نظراً لارتكابها ما يمكن تسميته «الموبقات السياسية والوطنية»، وهي ممارسات تجاوزت أخطاء الحكم التقليدية لتضرب أسس بقاء الدولة والمجتمع:
• استخدمت الحركة الشعارات كغطاء عاطفي يفتقر إلى برنامج عملي، مما سمح لها بتحويل الخصوم السياسيين إلى أعداء للدين، وهو ما شرعن استخدام العنف والحروب، لا كصراع سياسي، بل كـ”جهاد مقدس” لا يقبل المساومة.
• سياسة التمكين بوصفها عملية إقصاء ممنهجة لكل من هو خارج التنظيم، مما أدى إلى تفكيك مؤسسات الدولة القومية واستبدالها بكوادر تنظيمية تدين بالولاء للفكرة لا للوطن، وامتدت شهوة التمكين إلى تصفية الحسابات.
• استخدمت موارد البلاد لإشعال النزاعات القبلية لضمان بقاء النظام، مما أدى في النهاية إلى انهيار التماسك الوطني السوداني.
• تقويض عقيدة المؤسسة العسكرية عبر “أدلجة” القوات المسلحة، بإحلال الولاء التنظيمي محل الولاء الوطني، مما خلق انقساماً صامتاً داخلها بين المهنية العسكرية والتبعية الحركية، وجعل قرار الحرب والسلم خاضعاً للحسابات الحزبية الضيقة لا لمصلحة الدولة العليا. كما تم اختراق المؤسسة العسكرية وإنشاء إمبراطوريات موازية تتبع للجيش ظاهرياً وللتنظيم فعلياً، مما جعل استرداد قرار القوات المسلحة مرهوناً بتفكيك شبكات الولاء الأيديولوجي.
• ثقافة الميليشيات وتعدد الجيوش، إذ أرست الحركة هذه الثقافة خوفاً من الجيش الوطني، فأنشأت جيوشاً خاصة (الدفاع الشعبي، والدعم السريع)، مما خلق انفلاتاً أمنياً جعل الدولة تعيش حالة “الحرب الأهلية الكامنة” التي انفجرت أخيراً.
• تقسيم البلاد وضرب النسيج الاجتماعي، بتحويل حرب الجنوب إلى جهاد ديني ورفض التعددية.
• تدمير قومية مؤسسات الدولة عبر تشريد الكفاءات الوطنية وإحلال الولاء التنظيمي محل الأهلية المهنية في الجيش والشرطة والقضاء والخدمة المدنية، فتحولت المؤسسات إلى “إقطاعيات خاصة”.
• المتاجرة بالدين والفساد الأخلاقي باستخدام الدين قناعاً لممارسة أبشع أنواع الفساد المالي والاستبداد السياسي.
• رعاية الإرهاب والعزلة الدولية بتبني جماعات إرهابية عابرة للحدود في تسعينيات القرن الماضي، مما أدخل السودان في نفق مظلم من العزلة الدولية.
• تسليح القبائل وتأجيج الهويات الإثنية لضرب الخصوم، مما حوّل الصراعات المحلية إلى حروب أهلية شاملة.
• والحرب الحالية هي أكبر هذه الموبقات، وإستخدامها محاولة العودة عبر البوابة العسكرية.
سردية الحرب:
تقوم سردية الحركة الإسلامية على الوصاية على الشعب، وهي رؤية تفترض أن امتلاك شعارات الحسم العسكري يمنح التنظيم حقًا مطلقاً في قيادة المجتمع وتشكيل هويته قسراً. هذا التفكير حوّل الدولة من مؤسسة لخدمة الجميع إلى أداة للتمكين، حيث تُستخدم الحرب وسيلة لشرعنة البقاء، ويُعتبر القتل والعنف والتعذيب أدوات مقدسة لإخضاع المخالفين، مع الادعاء بأنهم يقاتلون من أجل كرامة السودانيين، وأن تضحياتهم تمنحهم صكّاً للحكم ورصيداً للمطالبة بالسلطة والثروة.
مآلات استعادة الحركة للسلطة:
أخطر مآلات المشهد السوداني الحالي هو عودة الحركة على فوهة البندقية وفرض مشروعها العدمي، الذي يقتات على الصدام مع الداخل والخارج لضمان بقائه. وتتمثل المخاطر في العزلة الدولية، وخنق المساعدات، ورفض المبادرات الدولية مما يضع السودان تحت طائلة عقوبات قد تتجاوز الأفراد لتشمل مؤسسات الدولة الحيوية ويعمّق الانهيار الاقتصادي. كما يشمل ذلك تأميم الحرب واستمرارها وتوسعها، وتصدير الأزمات وتحويل السودان إلى مصدر لعدم الاستقرار الإقليمي، وعودة القمع بأقبح صوره ضد قوى الثورة، وتقسيم البلاد، وتفتيت النسيج الاجتماعي، وتحويل السودان إلى دولة فاشلة.
تحديات استعادة المسار الديمقراطي:
هذا الإرث المعقد للحركة الإسلامية يجعلها من أكبر تحديات استعادة المسار الديمقراطي وبقاء الدولة، وهو ما يتطلب جراحة عميقة تمس إعادة صياغة مفهوم الدولة نفسها، وتمتد إلى إصلاح العقيدة العسكرية (الوطنية مقابل الأيديولوجيا)، بحيث تقوم على حماية الدستور والحدود والمواطن. ويتطلب ذلك تشريعات صارمة تمنع العمل السياسي داخل القوات المسلحة وتجرّم الانقلابات، وإنهاء تعدد الجيوش الموازية بعملية نزع سلاح وتسريح وإعادة دمج شاملة، تبدأ بالدعم السريع ولا تنتهي به. كما يتطلب التأسيس الدستوري على المواطنة المتساوية، والمصالحة الوطنية، والعدالة الانتقالية والمحاسبة، إذ لا يمكن بناء مستقبل وطني دون محاسبة على جرائم الماضي وكسر ثقافة الإفلات من العقاب.
مصير الحركة الإسلامية:
يتمثل المأزق الوجودي للحركة الإسلامية وواجهاتها في أنها بلا مستقبل داخل بنية الدولة الحديثة، بعدما استنفدت أدواتها الأيديولوجية والسياسية، ولم يتبقى لها سوى سلطة البندقية كرهان أخير للبقاء. وهو ما يجعلها تتحمل الوزر الأخلاقي والتاريخي لإشعال الحرب الحالية واستمرارها. فالحركة التي أدركت استحالة عودتها عبر القبول الشعبي رأت في تحويل السودان إلى ساحة صراع وجودي وسيلة وحيدة لخلط الأوراق وتجنب المحاسبة على عقود الفساد والموبقات، مما جعلها تغامر بكيان الدولة ووحدتها مقابل استرداد امتيازات سلطوية مفقودة. وهذا الإصرار على العودة عبر بوابة الدم يمثل انتحاراً سياسياً للتنظيم وجريمة تدمير للوطن.
استحقاقات الحوار مع الحركة الإسلامية:
إن الحوار مع الحركة الإسلامية وأحزابها وواجهاتها يجب أن يخرج من دائرة التكتيك والمناورة إلى الاستحقاق الوطني، الذي يمنع تكرار كارثة تدمير الدولة، ويرتكز على استحقاقات بنيوية غير قابلة للتفاوض، من بينها:
• استحقاق العدالة، فلا حوار دون تسليم المطلوبين للعدالة الدولية والإقرار بالمسؤولية عن الحرب.
• استحقاق الخروج من الأجهزة الأمنية والعسكرية وتفكيك الكتائب والميليشيات، وإيقاف خطاب تجييش المجتمع، والقبول بجيش قومي مهني واحد.
• استحقاق المراجعة الفكرية والالتزام المعلن بالانتقال من الوصاية الأيديولوجية إلى العمل المدني الخاضع للقانون، والتخلي عن شعار “الحاكمية” لصالح “المواطنة”.
• استحقاق تفكيك الإمبراطوريات المالية التي بُنيت بأموال الشعب.
• استحقاق ابتعاد الوجوه المتورطة في القمع والفساد عن المشهد القيادي في الفترة الانتقالية.
• استحقاق أخلاقي بتقديم اعتذار صريح ومعلن للشعب السوداني عن ثلاثين عاماً من الفساد والحروب، وتدمير النسيج الاجتماعي، وإشعال الحرب الأخيرة، بوصفه المدخل الوحيد لأي قبول شعبي مستقبلي.
التعليقات