لا خلاف ولا جدال بأن قرية الشرفة بركات والشرفة ابو القاسم (البحر) والشرفة الشريف الماحي (الفوق) والتي تعد من أكبر القرى بالجزيرة بامتداداتها، تشكل معقلا تاريخيا للأنصار، ويعود ذلك لاستشهاد الشريف احمد ود طه الذي يعد أول أبطال الاستقلال الذي قدم دمه واهله في سبيل استقلال هذا السودان الكبير .
وتبركا بسيرته وحماية لأسرته بعد معركة الشرفة الشهيرة، جعل الله تعالى الكثير من قلوب الخلق تهوي إلى تلك المنطقة المباركة.
والشرفة مثل أمدرمان، أمها تجمع وافر من السودانيين من كل البقاع والاصقاع والقبائل من الغرب والشرق والجنوب والشمال والوسط بطبيعة الحال.كل هؤلاء تجمعوا بحب وامتنان حول هذه الأسرة المباركة وتعايشوا على قيم من التداخل والتزاوج والسعة والفضائل.
وقد دخلت على القاطنين من زمان بعيد تيارات فكرية وعقائدية وحزبية متباينة، ولكنها لم تؤثر على النسيج الاجتماعي الراسخ وقد امتثل الجميع للشعار المتداول (إن اختلاف الرأي لا يفسد للشرفة قضية)
ولأن المقام هذه الأيام مقام جراح لا مقام توثيق واقتراح فإني أعبر إلى ما قل ودل، فقبل سقوط مدني المريب حينما انسحبت الدبابات من كبري حنتوب وسقطت الفرقة الأولى دون أن تطلق رصاصة واحدة في حماية هذه المدينة العريقة، كانت الشرفة قبل هذا الحدث المؤسف قد اكملت تجنيد وتدريب ما يقارب ال ٥٠٠ شاب دعما للجيش وللشرعية.
وكانوا ينتظرون السلاح والعتاد الذي وعدت به القيادة، نعم لقد فجعت الشرفة بسقوط مدني المزلزل مثلما فجعت كل قرى الحزيرة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وقد وجد كيكل الفرصة سانحة حين مسح على كل تلك القرى وطمئنها بأنها إن لم تتمرد على إرادة الجزيرة الجديدة فهي في مأمن وبحراسة ابنائها.
ولأن كل قرى الجزيرة كانت حينها لا خيل عندها تهديها ولا مال فقد ارتضوا الأمر الواقع حتى يقضي الله امرًا كان مفعولا.
وفعلا قام بعض الشباب في أغلب القرى بحراسة قراهم بما يسمى بفصائل الارتكاز، وحين أعلنت الشرعية والقيادة العسكرية بأن كيكل قد سلم واستسلم لإرادة الجيش والشعب، طلبوا من كل الارتكازات بقرى شرق الجزيرة أن تأتي للاحتفال المشئوم وتسلم أسلحتها، فقد فعل ارتكاز الشرفة مثل القرى الأخرى (ومن خُدع بدينه ووطنيته فلا تثريب عليه) وبمجرد ما شاع خبر تسليم كيكل حتى انقضت كتائب القتلة والغزاة من اللصوص والخونة والمارقين وتدفقوا من كل حدب وصوب على كل القرى دون تمييز قتلوا وسرقوا واغتصوا واذلوا ولم تكن الشرفة معصومة من ذلك، ورغم المفاجأة والفجيعة فقد تصدى مجموعة من شبابها الأخيار بالعصي والأسلحة البيضاء والحجارة في ملحمة تاريخية دفاعا عن أعراضهم وأموالهم وأنفسهم وشرفهم الوطني، وقدموا بين يديها ثلة من أفضل وأخير ابنائها شهداء عند ربهم يرزقون.
والآن الشرفة بآلافها من سكانها الآمنين قد غادروها فلم يبقى إلا هذا الجراد الصحراوي التدميري القاتل من الذين ظلوا يتجولون غدرا في شوارعها الطاهرة ينعقون كالبوم، ويحسنون بخلقهم الآثم بقية ما تركوه من متاع في البيوت والمؤسسات.
ومما تطمئن له النفوس أن شباب الشرفة وبقية القرى المجاورة لن يستسلموا للنزوح والانكسار فقد افتتحوا معسكرهم من جديد شرفاً وعزاً وجندية وسلاحاً وما الحرب إلا كر وفر واعتبارٌ وانتصار. ولكأنما كتب صاحب “نحن والردى” في حقهم وحقها أبياته الخالدات:

يا منايَا حَوِّمِي حول الحِمَى واستعرضِينا واصْطفِي
كلَّ سمحِ النفس بسَّامِ العشيات الوفي
الحليم العِفِّ كالأنسام روحًا وسَجَايا
أريحي الوجه والكف افترارًا وعطايا
فإذا لاقاك بالباب بشوشا وحفي
بضميرٍ ككتاب الله طاهر
اُنشبي الأظفارَ في أكتافه واختطفي
وأمانُ الله منا يا منايا
كلما اشتقتِ لميمونِ المُحيَّا ذي البشائر
شرّفِي تجدِينَا مثلًا في الناس سائرْ
نقهرُ الموتَ حياةً ومصائرْ

وفي حقهم وحقها نطلق أيضا نداء العامية ابتداراً لمعسكر الشهيد ود طه:

الشرفة القبيل ارساها دم ود طه
ما بسيبها للخونة ولصوص وسفاها
درويش الصبح التالي عم وطه
باكر راية السُّنة بتغطي سماها

التعليقات