ناقش المقال السابق “معطى القبيلة وفخ القبلية” كأحد التحديات الأساسية التي يجب التفكير فيها ضمن أسئلة اليوم التالي ومستقبل السودان، ويناقش هذا المقال أدوار ومسؤوليات المجتمع المدني ما بعد الحرب، والذي يأتي في ذات إطار سبر أغوار المشروع الوطني والعقد الاجتماعي الجديد لتوجيه البوصلة السودانية وابتدار حوار يستنهض طاقات العلماء والمفكرين والسياسيين وقيادات المجتمع، لاستعادة العقل النقدي السوداني

فتحت الحرب الدائرة في السودان جرحاً غائراً في الجسد الوطني، وأعادت تشكيل المشهدين الاجتماعي والإنساني على نحو غير مسبوق. ففي اللحظة التي انهارت فيها مؤسسات الدولة، وتوقفت الخدمات العامة، وتشرد الملايين بين النزوح واللجوء، برز دور المجتمع المدني كخط دفاع أول عمّا تبقى من تماسك البلاد، وكفضاء اجتماعي ما يزال يؤمن بأن السودان يستحق أن يُصان.

اضطرت معظم المنظمات إلى تغيير مسار عملها بصورة قسرية، فانتقلت من مشاريع التنمية والتعليم وبناء القدرات إلى ساحات الإغاثة والطوارئ. ورغم محدودية الموارد واشتداد المخاطر، ظل النشاط المدني ركيزة أساسية في مواجهة الانهيار الإنساني والانقسام الاجتماعي. غير أن هذا الدور الآني لا يمكن فهمه بمعزل عن السياق التاريخي الذي نشأ وتطوّر فيه المجتمع المدني السوداني على مدى عقود طويلة، وعن السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي لازم مسيرته وحدد دوره في كل مرحلة من تاريخ السودان الحديث.

ماهية المجتمع المدني:
منعاً للالتباس، وانطلاقاً من أكثر التعريفات شيوعاً للمجتمع المدني بوصفه “مجموعة من التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأفراد والدولة، وهدفها تقديم خدمات للمواطنين أو تحقيق مصالحهم أو ممارسة أنشطة إنسانية مختلفة”، ولعل من أهم مقومات تنظيمات المجتمع المدني أنها تقوم على الفعل الإرادي الحر التطوعي، ولا تسعى للوصول إلى السلطة، وتتواجد في شكل منظمات تتسم بتنوع الاتجاهات والتيارات المختلفة. وقد قامت منظمات المجتمع المدني على غرار مثيلاتها التي وُجدت من قبل، مثل النقابات المهنية والعمالية، والجمعيات التعاونية والأهلية والدينية، ومراكز البحوث، والجمعيات الثقافية وغيرها، وكلها تدخل ضمن التعريف الشامل للمجتمع المدني، بما في ذلك الأحزاب السياسية. ولتلافي التعميم، يركز هذا المقال على منظمات المجتمع المدني تحديداً، وستُناقش البقية لاحقاً في هذه السلسلة.

واستناداً إلى ما ظل يؤكده الدكتور عبد الرحيم بلال – عرّاب المجتمع المدني السوداني – في مسيرة إنهـاض المجتمع المدني بوصفه الضلع الثالث في مثلث الدولة “الحكومة، القطاع الخاص، المجتمع المدني”، ودوره الحيوي في ملء المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزماً في ذلك بقيم ومعايير الاحترام، والتراضي، والتسامح، والإدارة السلمية للتنوع والخلاف، والحوار السلمي، والثقافة، والديمقراطية، والمرونة، باعتباره أساس بناء رأس المال الاجتماعي (Social Capital) على حد وصفه.

السياق التاريخي:
يتميّز المجتمع المدني في السودان بتعدد روافده وعمق جذوره الاجتماعية، فهو مزيج من التنظيمات الحديثة ومن الموروثات الشعبية التي نشأت داخل المجتمعات الريفية والحضرية منذ قرون. وتشكل الطرق الصوفية، والروابط الاجتماعية التقليدية، ومجالس الحي، والأندية الثقافية أساساً قديماً لهذا الفضاء، الذي تطوّر لاحقاً ليصبح حقلاً واسعاً للعمل التطوعي.

وقد أسهمت هذه البنية الاجتماعية المتنوعة في منح العمل المدني نفوذاً واسعاً داخل المجتمعات، لكنها في الوقت ذاته جعلته أكثر ارتباطاً بالتحولات السياسية. فقد ظلت روح التكافل والتعاون والعمل الجماعي سمة راسخة في الوجدان السوداني، تجلت في لحظات الأزمات والكوارث.

يعود حضور المجتمع المدني المنظّم إلى بدايات القرن العشرين، عندما ظهرت الجمعيات الثقافية ونادي الخريجين ودوره في تشكيل الوعي الوطني. ومع خمسينيات وستينيات القرن الماضي تمددت شبكات الأندية والمراكز الثقافية، وأسهمت في خلق طبقة متعلمة وفاعلة في المجال العام.

إلا أن الانقلابات العسكرية المتعاقبة حدّت من تطور هذا الفضاء، وظلت مساحات العمل المدني تتأرجح بين الانفتاح المحدود والقبضة السلطوية. ورغم ذلك، حافظ المجتمع السوداني على تقاليده في التنظيم الذاتي، سواء عبر المنظمات الطوعية والمبادرات الشعبية أو الروابط المحلية أو الأنشطة الثقافية والاجتماعية.

سنوات البشير العجاف:
شكّلت سنوات حكم البشير (1989–2019) المرحلة الأكثر تأثيراً في بنية المجتمع المدني المعاصر. فقد تعامل النظام مع المجال المدني بعقلية أمنية صارمة، وأعاد تشكيله بما يخدم أهدافه السياسية، عبر تضييق قانوني ومؤسسي، وصناعة منظمات موالية، واستهداف العمل المدني الحقيقي. وقد تركت هذه الفترة الطويلة آثاراً عميقة على الحاضر، إذ ورثت البلاد مجتمعاً مدنياً يعاني من هشاشة مؤسسية، ونقص خبرات، واستقطاب سياسي موروث. ورغم ذلك، لعب المجتمع المدني أدواراً متعددة في مقاومة نظام البشير عبر المناصرة، والتوعية بالقضايا الحقوقية، وتدريب الشباب والنساء، والتنسيق بين الأحزاب السياسية، ودعم اتفاقية نيفاشا للسلام، ودعم المجموعات المطلبية، ورصد الانتهاكات، وتقديم السياسات البديلة.

المجتمع المدني في الثورة والفترة الانتقالية:
جادل الأستاذ مدني عباس مدني في دراسته “المجتمع المدني في فترة الانتقال الديمقراطي في السودان 2019–2021” حول أدوار المجتمع المدني في الثورة والانتقال، حيث أشار إلى أن دور المجتمع المدني في ثورة ديسمبر 2018 كان حاسماً ومفصلياً، إذ اتسم بالقدرة على التنظيم والتخطيط وقيادة المقاومة السلمية، والمساهمة في التنسيق بين الأحزاب، وترتيب لجان المقاومة والمجموعات النسوية، ودعم تجمع المهنيين. وأكد أن المجتمع المدني لم ينجح خلال الفترة الانتقالية في قيادة حملات ممنهجة للمناصرة وبناء التحالفات والتشبيك من أجل القضايا المتعلقة بقوانين المجتمع المدني والنقابات والحريات والحقوق، كما لم يشهد تطوراً ملحوظاً في قدرات مؤسسات المجتمع المدني الهيكلية والتنظيمية، على الرغم من وجود الحريات وتوفير بيئة متصالحة مع تطلعات المجتمع المدني.

وأكد عباس أن المجتمع المدني قام بأدوار مشهودة خلال الفترة الانتقالية بمشاركته في صناعة السياسات، والمشاركة في السلطة على مستوى مجلس السيادة ومجلس الوزراء، وتقديم مقترحات عملية لإصلاح القوانين، والمشاركة في عملية السلام، وصياغة مسودة قانون العدالة الانتقالية، وتقديم الدعم الفني للنيابة العامة حول قضايا الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، ومقترحات إصلاح السلطة القضائية وتكوين المفوضيات، وتعزيز المشاركة السياسية للنساء والشباب، والإسهام في معالجة الأزمة الاقتصادية والسياسات التنموية.

وأرجع عباس مواطن الضعف في أداء المجتمع المدني إلى هشاشة التحالفات، وضعف الديمقراطية الداخلية، والتأثر بالاستقطاب والصراع مع القوى السياسية، وعدم بلورة رؤية استراتيجية لدور المجتمع المدني في الانتقال.

المجتمع المدني في ظل الحرب:
قسّم الأستاذ منعم الجاك في دراسته “ديناميات الصراع في السودان وتداعياتها على العمل الإنساني والمجتمع المدني” المجتمع المدني خلال فترة الحرب إلى خمس فئات رئيسية، تتداخل أدوارها ومجالات عملها وتحدياتها التشغيلية، حيث تشمل:
• المجموعة الأولى: تتكون من المنظمات غير الحكومية الحديثة، وتشمل مجالات عملها قضايا التنمية المجتمعية، والثقافة، والحقوق، والبيئة، وتقديم الخدمات. وقد واجهت صعوبات عديدة بعد اندلاع حرب 15 أبريل، حيث اضطر معظمها إلى النزوح والتهجير داخل وخارج السودان أو تعليق عملها، كما اضطر بعضها إلى تغيير مجالات العمل لتشمل توفير الاحتياجات الإنسانية.
• المجموعة الثانية: تضم منظمات المجتمع المدني التي عملت تاريخياً في مناطق الصراع، حيث ركزت مجهوداتها على تقديم الخدمات والغوث الإنساني وبناء السلام والأنشطة المجتمعية، وقد مكّنتها خبراتها من التكيف والصمود.
• المجموعة الثالثة: تتمثل في المنظمات القاعدية والأهلية القائمة على أسس دينية أو إثنية أو مناطقية، وتستهدف مجالات عملها خدمة وتلبية الاحتياجات الأساسية لمجتمعاتها، وهي ذات طبيعة قاعدية لا تتجاوز معارفها وطرق عملها مجتمعاتها المحلية.
• المجموعة الرابعة: تشمل منظمات الاستجابة لحالات الطوارئ التي نشأت بعد حرب 15 أبريل، وتعمل بصورة رئيسية في تسهيل المساعدات الإنسانية، ومن أمثلتها غرف الطوارئ، والمطابخ المجتمعية، والمجموعات الدينية وتكايا الطرق الصوفية، ولجان الأحياء، وغيرها من المجموعات القاعدية التي طورت خبراتها السابقة أو نشأت حديثًا للاستجابة للأزمة الإنسانية الطارئة.
• الفئة الخامسة: تشمل المنظمات في المنافي، وهي مجموعات ظلت موجودة قبل الحرب، وتتفاوت قضايا اهتمامها وفق احتياجات الأوضاع، من المناصرة حول انتهاكات حقوق الإنسان إلى قضايا التنمية والتطوير والتبشير الثقافي وسط مجتمعات المهاجرين. وبعد حرب 15 أبريل طوّرت مجموعات المنافي أدوارها في دعم العمل الإنساني بصورة كبيرة من خلال جمع التبرعات والتنسيق مع المنظمات الدولية، ومع ذلك تطالها الانتقادات بسعي بعضها للعب أدوار قيادية إنابةً عن المنظمات المحلية.

واجه المجتمع المدني في ظل الحرب تحديات ومخاطر جمّة، تشمل انعدام الأمن والعنف المستمر، والاستهداف الممنهج وسلامة وأمن الفاعلين فيه، وإشكالات التمثيل والشمول، والاستقلالية والحياد، والبنية التنظيمية الداخلية، وتعقيدات الاتصال وتدفق المعلومات، والمبادئ والقيم الحاكمة، والعلاقات مع الشركاء الدوليين. هذا إضافة إلى القيود المتزايدة مع اتساع وتعقّد الحرب، من تشرذم واستقطاب وانقسامات جهوية وجغرافية وإثنية، وتأثيراتها الناتجة مثل الاصطفاف والتسييس والعسكرة، وفقًا للجغرافية والبيئة التي تعمل فيها المنظمات.

وبالرغم من المخاطر والتحديات الكبيرة التي يواجهها المجتمع المدني خلال الحرب، فقد تمكنت العديد من المنظمات من خلق أدوار وأدوات جديدة، مستمدة من معارفها المحلية وخبراتها التاريخية، أتاحت لها قدرة نسبية على الصمود والاستمرارية، بما في ذلك محاولات التكيف والتعامل مع التحديات والعقبات التي تضعها أطراف الحرب أمام عمل المنظمات، كما أشار الجاك في دراسته.

تحديات ما بعد الحرب:
التحدي الأساسي للمجتمع المدني مزدوج؛ الاضطلاع بدوره في بناء الدولة من ناحية، والتثقيف المدني للمجتمع، لا سيما المجتمع الأهلي، من ناحية أخرى، الأمر الذي يستدعي تكامل الأدوار بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي بما يحقق تماسك الدولة، وفك الاشتباك والتجاذب بين الدولة والمجتمع المدني الناتج عن المطالب الاجتماعية التي أفرزتها الحرب والاستبداد والفساد. وفي الوقت ذاته، تبرز مطالب المجتمع المدني بتكثيف عمله للتصدي للانقسام الهوياتي والاجتماعي؛ بمعنى العمل في ميدان التحول المدني الديمقراطي على مستوى الدولة، وفي ميدان التثقيف المدني على مستوى المجتمع، عبر مشروع وطني لإعادة صياغة الدولة والمجتمع معاً على أسس السلام والحرية والعدالة والديمقراطية.

تحولت مسألة التمويل الخارجي من مجرد وسيلة لتنفيذ المشاريع والأنشطة لدى بعض المنظمات إلى غاية في حد ذاتها، مما جعل التمويل الأجنبي مطيةً للأنظمة الشمولية لتحجيم دور المجتمع المدني بحجة الأجندة الخارجية والتدخل الأجنبي وانتقاص السيادة الوطنية. وبالتالي فإن الالتزام بضوابط وحوكمة التمويل الخارجي، من شفافية الصرف والعائد الاجتماعي، وتعزيز قدرات المنظمات العملياتية والإدارية وفق منظومة قيم وسلوك العاملين في المجال المدني، هو أساس فاعلية المجتمع المدني. علماً بأن إشكال السلطة مع المجتمع المدني ليس التمويل الخارجي، وإنما استهداف السلطة الشمولية التي عمدت إلى إضعاف مناعة المجتمع المدني وتشكيل منظمات موالية لاستكمال سيطرتها على المجتمع.

ما بعد الحرب: نحو عقد اجتماعي جديد:
يتمثل الدور المحوري للمجتمع المدني بعد الحرب – الذي يجب العمل عليه منذ الآن – في إعادة بناء الدولة بعد توقف الحرب من خلال: المشاركة في صياغة السياسات والقوانين، ودعم العدالة الانتقالية وجبر الضرر، وتوسيع مشاركة النساء والشباب، وقيادة جهود التعايش والمصالحة، ودعم إعادة الإعمار عبر مبادرات مجتمعية، وتعزيز قيم المواطنة المتساوية والوحدة الوطنية، ومحاربة الفساد والاستبداد، والإسهام في بناء عقد اجتماعي جديد ومشروع وطني متجاوز. فمستقبل السودان لن يُصنع بالسلاح، بل بالطاقة المدنية القادرة على إعادة بناء ما دمرته الحرب. وهذا الدور لن يتأتى إلا ببلورة رؤية استراتيجية للمجتمع المدني تهدف إلى تجميع المصالح في نسق المصلحة الوطنية، والإسهام في حل الصراعات، وتحسين الأوضاع الحياتية للمواطنين، وإجراء إصلاحات جوهرية في بنية المجتمع المدني نفسه بإفراز قيادات جديدة، وإشاعة ثقافة مدنية ديمقراطية، وإحكام التنسيق والتشبيك والشراكات الذكية.

ختامًا: وضعت الحرب المجتمع المدني أمام اختبار مصيري. وبينما انهارت مؤسسات الدولة، بقيت المبادرات المدنية ملاذاً للمواطنين وأداةً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. واليوم لم تعد مسؤولية المجتمع المدني مقتصرة على الإغاثة، بل تمتد إلى إعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس العدالة والمواطنة والديمقراطية. وإذا كان للسودان أن يستعيد عافيته، فإن المجتمع المدني سيظل أحد أعمدته الأكثر رسوخاً، بما يملكه من تاريخ طويل وخبرة متراكمة وقدرة على صناعة الأمل والسلام.

التعليقات