(1)
مائة مليون شخص في العالم مرشحون لأن يكونوا في عداد الجوعى هذا العام، أمر مؤسف بالطبع، أما الخبر فإن 9,6 ملايين مواطن سوداني هم من بين “غير الآمنين غذائياً” أي التعبير المهذب الجوع، حسب بيان صادر بالأمس عن برنامج الغذاء العالمي الذي يترأسه الأمريكي ديفيد بيزلي، الذي حصل ومنظمته على جائزة نوبل للسلام” الاسبوع الماضي.
وأما المخزي في هذا النبأ الأليم فإن جوعى السودان يشكلون نحو ربع سكان البلاد، وعشرة بالمائة من مجمل بؤساء العالم الذين يفتقرون للحصول على الحد الأدنى من قوت يومهم، ويحدث هذا في بلد لا ينقصه شيء من الموارد الطبيعية ومصادرها المتنوعة والمتجددة التي تؤمّن له بكل يسر أن يصبح سلة غذاء نفسه، دعك من أسطورة سلة غذاء العرب أو العالم، لا تذهب بعيداً في البحث عن مشاجب إنه متلازمة عوز القيادة، وفقر الخيال، وغياب الرؤية، وضعف الإرادة، وفشل الإدارة.
(2)
يقول برنامج الغذاء العالمي في بيانه”إن انعدام الأمن الغذائي لا يزال مرتفعا في السودان على نحو مقلق”، وأن البرنامج يضم صوته الى بقية الوكالات الأممية في الدعوة عالميا لتحسين نظم إنتاج وتوزيع الأغذية التي يتم تناولها بحيث تتحمل الصدمات بشكل أفضل بما في ذلك مواجهة جائحة “كوفيدا 19″، وأضاف “بالنسبة للبلدان الهشة بشكل خاص، فإن تعرضها للانزلاق نحو المجاعة يمثل خطرًا حقيقياً”، ويقول ديفيد بيزلي المدير العام للبرنامج إن صغار المزارعين في البلدان النامية بحاجة إلى الدعم حتى يتمكنوا من زراعة المحاصيل بطريقة أكثر استدامة، ثم تخزين ونقل منتجاتهم إلى الأسواق”، كل هذا حسن، إذا ما الذي يمنع البرنامج المختص دولياً بهذه المهمة من القيام بواجبه، بدلاً من إصدار البيانات وإلقاء المواعظ. الحالة السودانية تكشف أن أجندة السيد بيزلي غير مشغولة بهذه البديهيات بقدر انشغاله بأجندته السياسية، وبدلاً أن يعمل على مساعدة السودان في الخروج من هذا المأزق فإنه ينفق جهده للقيام بدور العرّاب بين حمدوك والحلو لضمان “فصل الدين عن الدولة” باعتبار أن ذلك هوما ينزل موائد الطعام للجوعى!!!
(3)
لندع السيد بيزلي وشأنه، فهو ليس نسيجا وحده في هذا المسلك، فهذه قواعد لعبة الأمم لا أحد يقدم شيئاً مجاناً، أو من أجل الإنسانية، تستوي في ذلك المنظمات الدولية والدول، والكل يبحث عن مصالحه وأجندته، ولا ينبغي لومهم على ذلك بقدر ما يجب أن نلقي اللوم على الذين يتحملون مسؤولية إدارة الحكم في هذا البلد، ماذا فعلوا حقاً من أجل ألا يتحول ربع سكان البلد إلى خانة الجوع في بلد بكل هذا الثراء في الموارد الطبيعية المتجددة، سوى السعي المحموم حتى حفيت أقدامهم في تسوّل المعونات والمساعدات وانتظار حلول من الخارج لن تأتي أبداً بما يحقق تطلعات السودانيين في التنمية الحقيقية مهما طال انتظارها في ظل عجز القيادة الحاكمة عن القيام بواجبها المنزلي في إطلاق طاقات الإنتاج وفي ظل افتقارها لرؤية واستراتيجية وخطط وبرامج وعمل مؤسسي لتحرير البلاد من الفقر والعوز والتخلف.
(4)
للأسف لا يحدث هذا ليس لأنه صعب ولا مستحيل، بل لأن قيادة الطبقة الحاكمة بمكونيها، العسكري والمدني، منشغلة بأجندة ذاتية معنية بسباق البقاء في سد السلطة، وكيفية خدمة هذا الغرض، وهو ما يفسّر هذا الاهتمام غير المسبوق بمحاولة إرضاء أطراف خارجية وتقديم التنازلات لها، لا من أجل الصالح العام، بل من أجل حساباتها الضيقة، من فرط إيمانها بأن الخارج هو من بات يملك الكلمة الأخيرة ومفاتيح لعبة السلطة في الخرطوم، ولأنها لا تؤمن حقاً بأن الشعب السوداني ولا ثورته المجيدة هي مصدر السلطة، فهل سمع أحدكم منذ تسنّم هذه الطبقة للسلطة من يتحدث عن الإنتاج ومحوريته في عملية الإصلاح الاقتصادي، أو يعمل بجدية من أجل توفير المعطيات الموضوعية اللازمة لتفجير طاقاته، والحد من الفقر؟ لن تجد لأحد منهم عزماً في هذا الصدد، فهذه ليست قضيتهم، ولكن انظر للحماسة التي يطاردون بها الأجندة الخارجية والحرص على خدمتها، وحينها فقط تعلم لماذا يأتي السودان في هذه الدرك الأسفل من بين جوعى العالم.

التعليقات