طرحت الحركة الشعبية لتحرير السودان – قيادة الحلو في مسودة الاتفاق الاطاري لايقاف الحرب وتحقيق السلام- والتي يتم التفاوض عليها حاليا في جوبا- مقترحًا متقدماً بإقامة انتخابات خلال الفترة الانتقالية. وفصلت الحركة الشعبية مقترحها في البندين ١٠-٢ و ١٠-٣ بتقسيم المرحلة الانتقالية الي جزئين؛ الاول يختص بإنشاء المؤسسات والاليات المتفق عليها والتصديق على دستور دائم والاعداد للانتخابات والثاني يبدأ بإقامة الانتخابات وينتهي بتقييم اداء الحكومة الانتقالية. وبغض النظر عن الانماط والمستويات التي تعرضها الحركة لاقامة مثل هذه الانتخابات، والتي تحتاج لتفصيل اوسع يأتي لاحقا فيما هو اكثر من سياق مسودة الاتفاق الاطاري، فالمقترح نفسه متقدم وايجابي. حيث استطاعت الحركة وبسلاسة استغلال منصة مفاوضات السلام لطرح مدخل لاحد اهم القضايا القومية، وهي قضية التأسيس للديمقراطية في السودان. وهو امر عظيم يكسر الطريقة النمطية لمفاوضات السلام التي شهدها السودان في تاريخه. والتي يتم خلالها حصر حركات الكفاح المسلح في مناقشة قضايا المناطق التي تنطلق منها باعتبارها حركات ضد التهميش الاثني والثقافي والمناطقي، ويتم المرور على بقية القضايا كهوامش غير جادة على متن نص الاتفاق. هذا المنهج يتجاهل ان قضايا التهميش هذه نفسها هي قضايا قومية متعلقة بعلاقة جهاز الدولة السودانية مع بعض مواطنيها، وهي قضية مرتبطة بهيكل وسياسات ومناهج جهاز الدولة ونظامها ككل وكيفية اكتساب اي حكومة لشرعية الحكم وجلوسها على سدة هذا الجهاز. فيتم اقتراح ومناقشة وتمحيص مقترحات تقرير المصير والحكم الذاتي وتقسيم السلطة والثروة كقضايا وحلول ومرتكزات اساسية لاتفاقيات السلام، دون الولوج الي لب قضايا غياب المساواة وانعدام العدالة في المشاركة السياسية وتأسيس الديمقراطية في معناها الاشمل كحل جذري وقاطع لهذه المعضلات. كما ان هذا المنهج يتجاهل طبيعة اصل حركات الكفاح المسلح كقوى سياسية بالاساس اجبرتها ظروف نضالها على خيار الكفاح المسلح لطرح قضاياها السياسية. نجحت الحركة مرة اخرى -بعد طرحها قضية الدين والدولة في اتفاق المبادئ- بطرحها المتقدم لانتخابات منتصف الفترة الانتقالية في كسر التصنيف الاحتكاري للقضايا السياسية في السودان والذي يترك للنادي السياسي المديني نقاش قضايا نظم الحكم والمشاركة ويحصر حركات الكفاح المسلح في قضايا مناطقها وحلولها بشكل جزئي.

وبالتأكيد فان الانتخابات ليست هي كل الديمقراطية، ولكنها في موقع القلب منها. وهي تجبر التنظيمات والفاعلين السياسيين على التواصل المباشر مع الجمهور لاكتساب شرعية تنفيذ طرحهم السياسي، وهو امر نحتاجه خلال هذه الفترة الانتقالية وبشدة. حيث ان الاصلاحات التي نحتاج الي انجازها خلال الفترة الانتقالية، لها خيارات متعددة وطرق كثيرة، وكلها تترتب عليها اثار مختلفة ولا يوجد خيار واحد صحيح او اخر خاطئ فيها. التفويض الانتخابي الانتقالي يضمن شرعية اكبر وقدر معقول من التأييد الشعبي لخيارات الاصلاح المطروحة والممكنة، ويمنح الجمهور الحق المباشر لاختيار طريقة علاج امراض ثلاثة عقود من الفساد والشمولية وسوء الادارة. وبطبيعة الحال ربما سيكون هذا التفويض محصورا في قضايا معينة لانجازها خلال فترة الانتقال ومرتبطا بها، مع وجود اليات اخرى لمعالجة القضايا التي تحتاج لتوافق اكبر -مثل الدستور او غيره- ولكنه سيكون بديلا حقيقيا للمزايدات الشعبوية والنخبوية حول السياسات والبرامج الاصلاحية من اي طرف سياسي كما هو سائد الان، وكما سيضمن السند الشعبي للحكومة المنتخبة لتنفيذ طرحها الاصلاحي والاشراف على عملية الانتقال بشكل اكثر فعالية وتأثيرا بدل من التردد والتأخير في البحث عن توافق شبه مستحيل نسبة لتعدد سياسات وايديولوجيات ومناهج تفكير القوى السياسية الوطنية. كما ان الانتخابات تقود التنظيمات والفاعلين السياسيين لانجاز الواجب الثاني المهم في خلال الفترة الانتقالية وهو اصلاح النادي السياسي السوداني وتنظيماته وحصر الممارسة السياسية على القوى السياسية المنظمة وانهاء تغول اجهزة الدولة سواء العسكرية او جهاز الخدمة المدنية عليها. وهو الواجب المكمل لواجب اصلاح جهاز الدولة خلال هذه الفترة.

كنت قد طرحت في كتابة سابقة مقترح لاقامة انتخابات تشريعية لتأسيس للمجلس التشريعي الانتقالي وهو الفريضة التي ظلت غائبة منذ النص عليها في مواثيق تأسيس الفترة الانتقالية. وهو مقترح قد يحتاج الي تفصيل اكبر حول التدرج في تأسيس الديمقراطية والتدرب عليها. يأتي مقترح الحركة الشعبية الان ليفتح الباب على مصرعيه حول كيفية الاختيار والتفويض للمستويات المختلفة من الحكم المحلي والاقليمي والتنفيذي والسيادي. وبالطبع يمكن ابتداع اليات وادوات خلاقة مثل التمثيل النسبي والاقليمي في المستويات السياسية المختلفة لضمان تجاوز ما خلفته قضايا التهميش والتفاوت التنموي وضمان تحقيق اهداف الانتقال في تحقيق السلام والعدالة. وكذلك يمكن التفصيل في مراحل الاعداد لمثل هذه الانتخابات وما الي ذلك من تفاصيل. ولكن المؤكد ان هذا الطرح وعلى طاولة هذه المفاوضات اعاد الربط بين قضيتين اساسيتين يمثلان عماد المشكلة السودانية: تأسيس الديمقراطية وتحقيق السلام.

التعليقات