لا تزال قراءة التاريخ تبوح بالكثير من العبر والعظات، وتلك هي الحكمة من سير السابقين لمن أراد أن يعتبر من اللاحقين.
مخطيء من يتصور أن قصص التاريخ لا تستعاد، وأن آليات الدورة التاريخية ينال منها التغيير الجذري في جوهرها ومضمونها، الحقيقة أن أي تغير يظهر في سير الأحداث التي تكررت عبر التاريخ إنما هو تغير في الشكل لا المضمون، وفي قصة “التغراي” عبرة جديدة لنا ولهم ولغيرهم.
لقد أخبرنا التاريخ أن كل أمة أو قومية أو جماعة أو ميليشيا ارتمت في أحضان المستعمرين، وباعت القضية التي تناضل من أجلها، لن تسلم من انقلاب السحر على الساحر، لأن البيئة الحاضنة “المستعمرة” سرعان ما تتخلص من “الأفعى” الخائنة التي تربت في أحضانها حتى تتجنب سمها.
أقول ذلك ورحى الحرب تدور على أشدها بين الإثيوبيين والتغراي، والصراع الدامي بين الطرفين يتصدر عناوين الصحف ووسائل الإعلام العالمية في ذلك الجزء الملتهب من قارتنا العظيمة، ولا يعنيني في هذا المقام الخوض في تفاصيل الحرب الميدانية وحسابات المكسب والخسارة، قدر ما يعنيني قراءة مختلفة في ما وراء هذه الحرب الأهلية التي أسقطت مئات القتلى وشردت عشرات الألوف الذين نزحوا بعيدًا عن المعارك.
قراءتي عن تلك الحرب الأهلية عنوانها “ثمن الخيانة.. خيانة”، و”ثمن النكران.. خسران”، وأعني بذلك “التغراي” الذين كانوا صنيعة جبهة التحرير الإريترية وتلقوا منها الدعم بالتهيئة والتدريب على جميع الأصعدة (عسكريًا وإعلاميا ولوجستيا) في سبيل إضعاف العدو الإثيوبي المتعطش دومًا إلى الدماء والطامع في خيرات إريتريا والجاثم على صدرها عقودًا طويلة قبل أن تنتصر الثورة الإريترية وتتحرر من هذا الكابوس.
ولكن غدارون هم التغراي، فقد تنكروا لكل ذلك بمجرد أن قويت شوكتهم وعملوا مع غيرهم علي تدميرها، واتفقوا علي تدمير أم النضال الإريتري صاحبة الفضل الأول والدعم الأول.
لقد وجدت جبهة التحرير الإريترية نفسها ما بين عشية وضحاها في حرب استنزاف وأمام فكي كماشة من أبنائها العاقين والمتطرفين في العقوق وهما: الابن البكر الجبهة الشعبية لتحرير التغراي، وابنها الأصغر الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا والتي هي الأخري ساهمت في تفتيت الجبهة عبر عدة وسائل وللأسف منهم من ساهم في تأسيسها وكان من الرعيل الأول فلم يجد من وراء عمله هذ إلا الجحود والإذلال.
لقد علمتني الحياة أن من يخون أمه، فلن يكون أمينًا مع زوجة أبيه التي بالطبع لن تقوم مقام أمه ولن تمنحه ما منحته له.
إن التغراي هم العدو الأول لإريتريا كدولة، وهم الذين تآمروا عليها مراًا وتكرارًا وسعوا بكل السبل لتفتيتها وتمكين الشيطان الأكبر منها، وهاهم يدفعون ثمن الخيانة والجحود والنكران، بعد أن دارت الدائرة عليهم ليشربوا من نفس الكأس الذين قرعوه من قبل وهم يتآمرون على وحدة شبنا الإريتري الأبي.
إن أكثر ما يؤسفني هنا – كمواطن إريتري- أنه حتى المعارضة احتمت بالعدو التقليدي للشعب الإريتري، وتحولت إلى لعبة في أيديهم، ولم يكن بمقدور التغراي أو من ضمن برنامجهم إسقاط الحكومة الإريترية، وإنما العبث وفرض شروطهم واستنزاف بلادنا وجرها إلى حروب فاشلة وفاسدة، وكانت النتيجة للأسف أننا أصبحنا خاسرين على الدوام حيث يدفع شعبنا الثمن في كل تلك المؤامرات، وها هي أسمرا تضرب بصواريخ عنجهية.. وأتساءل: من أجل ماذا؟
ويا لغرابة التاريخ، الذي يعيدنا إلى فصوله، وينزل لعناته على كل خائن وناكر للجميل، فاليوم تعود ماكينة التاريخ علي التغراي طحناً وتأديبًا ليشربوا نخب خيانتهم، ثم يذهبون بما فعلوا غير مأسوف عليهم إلى مزبلة التاريخ كما كانوا في عهد المقبورين هيلي ومنقستو، جزاء ما خانوا الأبطال الأحرار من أمتنا العظيمة وشعبنا المغوار.
وبالتبعية، سوف تنتهي -إن عاجلا أم آجلا- مرحلة اللاسلم واللاحرب التي تذرعت بها الحكومة الإريترية طوال السنوات السابقة، وستفضي -بلا شك- حكمة التاريخ إلى مستقبل جديد.. فهل يا ترى ما هو القادم؟
أكتب ذلك، وأنا أستمع إلى أغنية سيرديت للفنان المرحوم خالد الذكر الأمين عبداللطيف التي تغنى بها في مطلع ثمانينيات القرن الفائت.
قلبي على وطني.. وللحديث بقية ما بقينا.

التعليقات