وثق له: سراج الدين مصطفي
(1)
ثمة تحولات بارزة شهدتها مسيرة الأغنية السودانية عبر مسيرتها التاريخية..وبغير تطوراتها منذ مجئ ود الفكي من عطبرة وتأسيسه للغناء ..ثم تطورات حقيبة الفن من عهد الطنبارة..ومروراً بالنقلة الكبري ألتي أحدثها خليل فرح وإضافاته من حيث الموسيقي والشعرالمناهض للإستعمار ووقوفاً عند إبراهيم الكاشف الذي نقلها ووضعها في شكلها الحديث بإعتباره أول من أحدث التشكيل الأوركسترالي المتعارف عليه الأن..ذلك فيما يخص تطورها الألي..ولكن الغناء أيضاً كان لا قيمة له إجتماعياً..
(2)
كلنا نعرف بأن الفنان كان يقال عليه(صعلوك)..وكان ذلك التوصيف هو أكبر ظلم إجتماعي كان يعانيه الفنان..ولكن الثورة المفاهيمية التي حدثت بعد ذلك وتغير النظرة الدونية تلك وإنتقالها من مربع عدم الأحترام إلي الإفتتان بالفنان..لا يمكن مطلقاً أن نتجاوز مفجر تلك الثورة العميد الفنان أحمد المصطفي..وهوالرجل الذي تعب في أن يجعل للفنان وضعية إجتماعية مميزة ومقدرة..وما كان ذلك ليتأتي لأحمد المصطفي لو لم يكن هو مثالاً حياً يمشي بالخلق الرفيع والغنائية التي تدعو للفضيلة وتعيش هموم الناس وتعبر عنهم وتتوغل في تفاصيل حياتهم..لذلك من البديهي أن يكون أحمد المصطفي هو ذلك الفنان العلامة
(3)
فهو بغير إجتهادته تلك فهو أيضاً كان فناناً له رؤيته الغنائية واسس لمدرسته الخاصة..فهو عبر تاريخه المضئ والطويل قدم أغنيات كبار مثلت نقلات مهة ومحطات لا يمكن غير الوقوف عندها وتأملها ملياً ..لأن أحمد المصطفي لم يكن فناناً عادياً..فغنائيته أتسمت بالمباشرة والبساطة وفيها الكثير من الإنسيابية ..وهو لما يركن في غنائيته لشعر صعب التراكيب ولا الي جمل موسيقية معقدة..لذلك كان من السهل هضم غنائيته وقبولها الذي يصل حد المطلق..والوجدان السوداني لا يمكن بأي حال ان يتجاوز أغنيات مثل الوسيم،ما أحلي ساعات اللقا،بنت النيل،يارايع،طار قلبي،يا حبيبي انا فرحان،أنا أمدرمان ورحماك يا ملاك (حياتي حياتي) وغيرها وغيرها من الغنيات الفارعة التي مثلت بحد ذاتها نقوشاً وحضوراً جميلاً علي مر الأيام..
(4)
من حديقة العميد أحمد المصطفي نقتطف زهرته اليانعة (حياتي حياتي) للشاعر المنسي مبارك عبدالوهاب رضوان ، هذه الأغنية التي شكلت بعثاً مفاهيماً في الغناء السوداني من حيث تركيبتها الشعرية في صياغة المفردة أو من ناحية التكريس لمفاهيم جديدة تجاوز بها أحمد المصطفي عصر الحقيبة وحقبة الغناء الحسي والمباشر،حيث قال عنها الشاعر والمسرحي الراحل عماد الدين ابراهيم(فبينما كانت عموم الاغانى الرسمية تتحدث عن المرأة واصفة اياها بمنظور حسى او هى أحزان رومانسية عن الغياب والدموع والسفر والأذى والحرمان ،فكأننا نسمع بكائيات جوفاء في مضمونها لكنها ذات جرس وسجع وهى مفردات حميمة نتلقفها ونروج لها فتصبح كذبة صدقناها ،ووسط هذا الزخم اغنيات الحس واغنيات البكاء والنواح ظهرت اغنية حياتى وثيقة ضد السائد والمألوف تضع المرأة لأول مرة نداً للرجل مساوية له على الطريق – يصرخ (مبارك) مفتتحاً القصيدة بكلمات بسيطة معبرة قوية
حياتى حياتى..
أحبك أنت كحبى لذاتى ..
أحبك أنت
لحبك أنت معانى الحياة ..
سلكتى طريق طريق محفوف
بكل محب وكل عطوف
نبذتى الضيقنزعتى الخوف
وقلتى نسير نسير ما نقيف
وقلتى مادام في الدنيا حب
وعاطفة عميقة في روحنا تدب
وايد في ايد
وقلب جنب قلب
ليه ما نسعد وليه ما نحب
ده الدرب السالكاه
والقلب المالكاه
هم قلبى ودربى
وحبك اياه
بطراه برعاه
هل ترعى حبى
نحنا السعادة أحبابا
ونحن المودة طلابا
والجنه الليها نتشابى
باكر ندق على بابا
وندق وندق وندق
والجنة تجيب
بأملنا نشق
ان شاء الله قريب
وتهلل علينا
لقلوبنا الحزينه
بشاير السنين
في غمرة هنانا
تتشابك يدينا
يسار في اليمين
استطاع الرجل بتكرار العبارات ان يتمكن من اختراق قلب مستمعه مباشرة لم يكن الشعراء (شعراء الغناء) يقولون حينذاك مثل هذا الكلام وأن يرتبط الحب بعموم معانى الحياة انظر إلى المفردات (حب الذات) (معانى الحياة) تعابير غريبة على جسد الاغنية السائدة ولو لم يغنها أحمد المصطفى ويضع هذا اللحن الشفيف ويفرضها مجدداً في الاغنية لوجدت قمعاً مثلما يحدث مع كل جديد وعموماً – اعتقد ان هذه الاغنية – تجربة ثورية في الاغنية وان مبارك عبدالوهاب يستحق فقط بأغنيته هذه تكريماً خاصاً .
(5)
يقول ابن اخته المهندس محمود احمد المصطفى ولد الشاعر مبارك عبدالوهاب رضوان يوم 11 مايو 1927 ، بحي بيت المال بامدرمان ، درس بخلوة النخلي ثم المدرسة الاولية بالحي ، فامدرمان الأميرية الوسطى ومدرسة وادي سيدنا الثانوية . أختير للدراسة بكلية الخرطوم الجامعية في عام 1948 ولم يكمل دراسته بها حيث تم فصله لأسباب سياسية ، فعمل لمدة عام في معمل ويلكوم التابع لوزارة الصحة ، ثم إلتحق بعدها بجامعة القاهرة لدراسة الهندسة الميكانيكية عام 1949 وفي هذه الفترة قدم لأحمد المصطفي أغنيته ظالمني:
ظالمنى وطول عمرى ما ظلمتك يوم
وتلومنى يا قاسي وكان حقي ألوم
بعيونك وخدودك والثغر الضحاك
تجرحنى يا ظالم لو ترحم جرحاك
حبيتك يا ريتنى ما كنت حبيت
كم ذقت فى حبك نار هجرك ووريت
آلامى يا روحى وجروحى مسامحاك
الظالم فى عرفاك يا جاير مظلوم
تهجرنى وتجرحنى تتركنى وتلوم
وين حلمك يحمينى من ظلمك وتلين
وين عطفك يا قاسي وين لطفك وانا وين
انا طامع فى وجودك انا حافظ لعهودك
ايه ذنبى ما خنتك وتركتك لسواك
ليه تنثر ما بينى وما بينك اشواك
ليه تحرم يا روحى من رؤياك العين
ليه تجعل من حبى اوهام وغيوم
تظلمنى وطول عمرى ما ظلمتك يوم
والتي تغنى بها لاول مرة في عيد الأضحى المبارك عام 1952 عبر إذاعة امدرمان . وبعد ان اكمل مبارك السنة الثالثة وفِي بداية السنة الرابعة في الجامعة بمصر تم فصله لنشاطه السياسي ، ولم تتوقف ملاحقته ، فألتحق بالعمل في هيئة قناة السويس بمصر التابعة لبريطانيا آنذاك عام 1953 إلي أن قرر العودة للسودان في ديسمبر عام 1954 حيث عمل معلماً لمادة الرياضيات بمعهد التربية بشندي وهناك زامل الشاعر إدريس جماع حيث نمت بينهما علاقة حميمة وكانت فترة حافلة بالثقافة والفكر فأفرزت العديد من الأعمال الشعرية الرصينة ..
(6)
لم يبق مبارك كثيراً بمعهد التربية بشندي حتي رشحه الأستاذ محمد عمر بشير ليكون ناظراً لمدرسة وسطى جديدة بمدينة كريمة ، وفيها إلتقي بالفنان عبدالكريم الكابلي الذي كان يعمل في مدينة مروي وتوطدت العلاقة بين الأثنين وعاصر مبارك مولد الكثير من أغنيات الفنان الكابلي وشاركه في بعض الكلمات والألحان وذكر الأستاذ الكابلي أن الشاعر مبارك عبدالوهاب هو الذي بدأ كلمات أغنية (ما بنخاصمك) كما شاركه في الكثير من الأعمال الفنية.. ويحكي الدكتور أنس العاقب وهو إبن عمة الشاعر مبارك عبدالوهاب (هو من أوائل السودانيين المتخصصين فى كيمياء الغذاء من جامعة (براتسلافا) فى جمهورية تشيكوسلوفاكيا وعمل قبل ذلك ناظراً لمدرسة وسطى بكريمة (كما سبق القول) وهناك نشأت بينه وبين الفنان الكابلي صداقه حميمه لم تثمر سوى اغنيه مشتركه عندما أرسل مبارك للأصحاب فى مروي بعد ان نقل للخرطوم فارسل برقيه من كلمه واحده (يا حليلكم) رد له الكابلى(ياحليلك انت براك..كيف بنذكرك ما دمنا مابننساك) وهو إنسان مثقف ثقافة عالية ويتحدث بعدة لغات وعمل مستشاراً لأغلب مصانع السكر فى السودان.
(7)
وبحسب الدكتور نصر الدين شلقامي يمقالة له منشورة بجريدة الصحافة في يوم الخميس 28/8/2003 العدد (3689) قال فيه (عاد الشاعر مبارك عبدالوهاب مرة أخري لأمدرمان ليعمل مدرساً بأمدرمان الأهلية حتي عام 1959 إلي أن شد الرحال الي جمهورية تشيكوسلوفاكيا للدراسة من جديد وهناك في مدينة (براتسلافا) قضي سنوات في دراسة الهندسة الميكانيكية حيث نال الدبلوم الأحمر وهو أعلي درجة للتفوق في الدراسة الجامعية هناك ، وكان الطالب الأجنبي الوحيد الذي ينال هذا التقدير فيها وتزوج مبارك من فتاة سلوفاكية تدعي (ميلكا) وأنجب منها بنتين نادية ويارميلا ( وتعني زهرة الربيع) ويذكر أن الفنان أبراهيم عوض قد زار الطلبة السودانيين في مدينة براتسلافا مطلع الستينيات وغني في الحفل للطلاب الأجانب وشاركته ميلكا في الغناء حيث غنت قصيدة حياتي حياتي كاملة والتي كانت تحفظها عن ظهر قلب.
(8)
عزالدين إبن الفنان أحمد المصطفي قال عن الشاعر مبارك عبدالوهاب( ليس للشاعر مبارك عبدالوهاب توثيق بأجهزة البث غير لقاء تم معه عام 1996 بالفضائيه السودانيه ببرنامج بعنوان ( ذكريات الاغانى ) من اعداد الاعلاميه ساميه مقبول وقد حضر وتحدث عن ذكرياته مع اغنية ظالمنى التى من تاليفه ولحن وغناء الاستاذ احمد المصطفى والكلام لعزالدين (ذكر الاستاذ الفنان احمد المصطفى انه عندما كان نزيلاً ببنسيون بمصر فى النصف الاول من الخمسينيات وجد رساله بالاستقبال كانت باسم شخصين ليس له معرفة بهما و بالرساله قصيده مع رجاء بأن يقوم بتلحينها .. يقول الاستاذ انه جلس من الصباح الى المساء واكمل تلحين القصيده ومن العنوان بالرساله ذهب لمقابلة اصحابها وعند بلوغه المكان خبط على باب شقه وخرج له رجل لا يعرفه فاخبره بانه وجد قصيده مرسله من شخصين بهذا العنوان وقد قام بتلحينها ويريد مقابلتهم ورد عليه الرجل بانه مؤلف القصيده والشخصين زملاء معه بالسكن اخذوا القصيده دون علمه واخبره بان اسمه مبارك عبدالوهاب واسمعه الاستاذ القصيده مغناه ثم افترقا وعند رجوعه الى السودان قام بتسجيلها بالاذاعه السودانيه عام 1952.
(9)
في مدينة الخرطوم وبحسب رواية الشاعر نفسه في حلقة (ذكريات الأغاني) قال ( عام 1956 وجد الاستاذ احمد المصطفى قصيده من تاليف الشاعر مبارك عبدالوهاب وعلم انه ناظر مدرسه بمروى فاتصل به تلفونياً يستاذنه ليلحنها ويغنيها .. يقول الشاعر انتهزت الفرصه واشترطت عليه لكى ينال القصيده ان يقيم لنا حفلاً خيرياً لاعانة المدرسه فرد الاستاذ بالموافقه لكن بعد ضمان موافقة العازفين للحضور معه الى مروى وفعلاً بعد ثلاثة ايام اتصل بالشاعر تلفونياً واكد له حضورهم وما عليه الا باعداد نفسه ومدرسته ليوم الاحتفال .. حضر الاستاذ وبمعيته العازف عبدالله عربى وعبدالفتاح الله جابو واثناء وجودهما بمروى حدث العدوان الثلاثى على مصر و تخوف الجميع من امتناع احمد المصطفى عن الغناء تاسفاً على الحادثه الماسويه وعندما شعر الفنان بتوجسهم اشترط لكى يغنى ان يؤلف الشاعر مبارك عبدالوهاب قصيده تعاطفاً مع مصر الا ان الشاعر تحجج بانه مشغول باعداد الحفل وغير مهيأ نفسياً لينظم الشعر فهدده الحاضرون برميه بجبل البركل المسكون بالجن إن لم يلبى طلب الاستاذ واضطر الشاعر الرقيق بعد التهديد ان يكتب ويقول:
أخى العربى اخو كل حر
لنسلك درباً سلكته مصر
أخى إن مددت يدك اليّ
وألقيت عزمك بين يديا
سنمضى الى النصر حتماً سوياً
ونقضي على الظالمين الطغاة
ونقزف بالظلم اقصى مقر
وقام الاستاذ فوراً بتلحينها والتغنى بها بالحفل ورجع الى الخرطوم متابطا قصيدة حياتى حياتى .
(10)
الشاعر والمسرحي الراحل قال أيضاً عن الشاعر مبارك عبدالوهاب( عرفته معرفة طفيفة الشاعر الراحل مبارك عبدالوهاب وقبل وداعه ببضع سنوات كان يعمل في شركة السكر ولعله في مجال الهندسة ان لم يكن في مجال الادارة وذلك عبر ابن اخته (منير) عليه رحمة الله – وطيلة عمر المعرفة الطفيفة ماعرفت عنه سوى السخرية الذكية الحارة كان يمزج الفلسفة بالواقع وله في أمور الدنيا وقصديه الحياة ومعانى الدين آراء جديرات بالمناقشة وبالصدفة عرفت انه الشاعر الذي غني له احمد المصطفى اغنية (حياتى) وهى اشهر الاغنيات السودانية واقواها اذا كانت في عصور الاغنية السودانية (انقلابات) فهذه الأغنية هى بيان الإنقلاب الأول على مضامين الأغنية السودانية.
(11)
الشاعر الراحل مبارك عبدالوهاب تزوج من السلوفاكية (ميلكا) وله منها بنتين ولكنه انفصل عنها بحسب إفادة الدكتور والشاعر والملحن محمد عبدالله محمد صالح الذي قال أن مبارك عبدالوهاب عمل بسكر الجنيد وافتتح سكر حلفا الجديده وسكر سنار. كان يشكو من امراض في اخر ايامه. و هو من دعا الكثير من الفنانين الي سلوفاكيا اشهرهم احمد المصظفي وابراهيم عوض . وكان يشرف على مزرعه في جنوب الخرطوم ملكاً لأخته . وكان مبدع موسوعي ومثقف رفيع، حيث عاش الرجل في أخر أيامه يعاني من فقده لبنتيه بسبب سفر والداتهن بهن الي شيكوسلفاكيا وظل يعاني من ذلك الفقد حتي رحيله عن الدنيا في 8 مارس 1997.
(12)
اخيراً يقول محمود احمد المصطفى (ابن اخته) انه قام بتلحين قصيدتين من تأليف خاله مبارك ، الاولى بعنوان من غير وداع تم تأليفها عام 1949 , اما الثانية بعنوان عاطر الانفاس ألفها عام 1959.
(توثيق: سراج الدين مصطفي)

التعليقات