في البدء التهنئة لكل السودانيين والسودانيات بعيد الاستقلال المجيد، و أيضا، ببداية العام الميلادي الجديد. جعله الله عام خير وأمن وسلام واستقرار في البلاد. ونرجو أن يشهد هذا العام الجديد انقشاع وباء الكورونا الفتاك، الذي حصد الكثير من الأرواح في أرجاء المعمورة، وأربك إيقاع الحياة اليومية في كل مكان، وتسبب في ضوائق اقتصادية حادة، لقطاع كبير جدا من سكان الكوكب .
علينا، ونحن نحتفل بالذكرى 65 لإعلان استقلال بلادنا من الحكم الثنائي، البريطاني المصري، من داخل البرلمان عام 1955، أن نقوم بجرد حساب لهذه السنوات الخمس والستين، لمعرفة إلى أي مدى تحققت لنا فيها معاني الاستقلال. فهل يعني الاستقلال، وهل تعني الحرية مجرد خروج الجيوش والادارة الأجنبية، أم أن للاستقلال تجليات أخرى، ينبغي أن تتجسد في إنجازات ملموسة تنتظم كل أوجه حياتنا؟ فخروج الجيوش الأجنبية، والإدارة الأجنبية، من بلادنا لا ينبغي أن يمثل سوى العتبة الأولى في السير نحو تلك الانجازات. وأي جرد أمين لتجربة الحكم الوطني السوداني، على مدى الخمس وستين عاما الماضية، لا يصل إلا إلى نتيجة واحدة. مفاد تلك النتيجة أننا لم نحقق، لا وحدة وطنية، ولا استقرارا سياسيا، ولا سلاما، ولا تنمية اقتصادية، بل ولا حتى استقلالا يذكر في قرارنا السياسي. فقد بقي تأثير الخارج على سياستنا أكبر من تأثير الداخل. ولا تزال أيدي الخارج ظاهرة في كل ما تأتي نخبنا المتنفذة، من عسكريين ومدنيين، وما تدع.
لقد كان مفهوم الاستقلال لدى آبائنا المؤسسين غائما منذ البداية. فهم لم يروا بأسا، بادئ الأمر، أن يخرج البريطانيون لينضوي السودان، تحت التاج المصري تحقيقا لشعار “وحدة وادي النيل”. فقد جاء في خطاب السيد إسماعيل الأزهري، رئيس مؤتمر الخريجين، الذي أرسله إلى لجنة المؤتمر الفرعية بودمدني، في 4 أبريل 1945، ما يلي: “إن الوضع الذي يفصح عن رغبات البلاد الحقيقية والذي يحقق لها مصالحها ويكفل لها حريتها ورفاهيتها هو قيام حكومة سودانية ديمقراطية في اتحاد مع مصر تحت التاج المصري”. (راجع: معتصم أحمد الحاج، بعض وثائق مؤتمر الخريجين، الجزء الثالث، ص 152). ولا يخفى أن هذا التوجه نحو تذويب الدولة السودانية في الدولة المصرية، قد عكس تجاهلا لحقيقة أن التاج المصري، في الأصل، هو تاج خديوي، متجذر في تركيا. بل، وقبلها في ألبانيا، التي أتى منها محمد علي باشا، حاكم مصر الأجنبي، الذي غزا السودان عام 1821. فاستعبد رجاله ووضعهم في سلك جنده قسرا، وهو يسعى لبناء امبراطوريته في وادي النيل والجزيرة العربية. وأيضا، لينهب ثرواته وعلى رأسها الذهب. وليذيق شعب السودان الأمرين بالضرائب الباهظة والعسف والتعذيب والتنكيل، إلى أن خلصتهم منه الثورة المهدية.
لم يستحضر آباء الاستقلال تلك الحقائق، وهم ينادون بوحدة وادي النيل. ولقد خرج السودان من منزلق التبعية المطلقة لمصر، بمحض العناية الإلهية. فقد غير السيد إسماعيل الأزهري ورهطه توجههم في آخر لحظة، 180درجة. وهكذا جرى أعلان الاستقلال عن كل من بريطانيا ومن مصر، من داخل البرلمان. ولربما كان لوجود تيار استقلالي مناهض لتيار الوحدة مع مصر، ولتناميه وبروزه في المفاوضات مع المصريين والبريطانيين، إضافة إلى حرص بريطانيا ألا يقع السودان في القبضة المصرية، أثره في أن يغير الزعيم الأزهري ورهطه توجههم الاتحادي، إلى توجه استقلالي.
لكن لم يسلم السودان، في عموم تجربة ما بعد الاستقلال، من التبعية. رغم أعلانه جرى بوصفه قطرا مستقلا. وعموما، لم تخل أغلبية أقطار العالم من تبعية، بقدر ما، لقطر من الأقطار ينطبق هذا بصورة أكبر على أقطار العالم النامي، التي كانت واقعة تحت نير الاستعمار. فلقد أطلق مفكرو العالم النامي على الهيمنة الاقتصادية الغربية، التي بقيت عقب استقلال المستعمرات، ثم تنامت، مصطلح: “الاستعمار الحديث”. وإلى جانب الهيمنة الاقتصادية كانت هناك التبعية الأيديولوجية الاختيارية لواحدة من بؤر الأيديولوجيا الكبيرة، كالمعسكر الغربي والمعسكر الشيوعي. وكانت هناك، أيضا، التبعية للبؤر الأيديولوجية الإقليمية كالقومية العربية، أو المنظومة الإخوانية الإسلامية العابرة للأقطار.
(يتواصل)

التعليقات