خمسة وسبعون عاماً ليس بالزمن الطويل في تاريخ الشعوب ولكنه طويل نسبياً بالرجوع الى تاريخ نشأة الأحزاب السودانية و الي نهوض الحركة الوطنية في السودان، إذ أن نشأة حزب الامة في السودان والذي أرَّخ لها الكثيرين، لا تجد لها مثيلاً فيما بين الاحزاب السودانية.
نشأ حزب الأمة القومي نتيجة تحالف بين مثقفين وقوى إجتماعية متمددة على طول الوطن. ولعلي هنا أستحضر تجربة مشابهة، متمثلة في الحزب القومي الإسباني الذي نشأ في بداية القرن ال١٩ بهدف تحرير إقليم كتالونيا، ولكن الفرق أن الحزب القومي الإسباني إتخذ في نشأته وسيلة مختلفة، إذ تبني النضال المسلح بينما تبنى حزب الامة القومي منذ النشأة النضال السياسي المدني البرامجي السلمي. وكان ذلك البرنامج تحت شعار السودان للسودانيين.
وبالرغم من تشابه ظروف النشأة والفكر التأسيس، فإننا لا نستطيع كذلك أن نطابق بين حزب الأمة القومي وحزب المحافظين البريطاني أو الحزب الجمهوري الأمريكي (grand old party) ربما لظروف متعلقة بالخلفيات التاريخية وظروف النشأة ودرجات الوعي والطبيعة الإجتماعية.
عند قراءة وثيقة حزب الأمة القومي أو النقش على جداره لابد من الوقوف في محطات كثيرة وكبيرة، هذه المحطات شكلت مراحل خطيرة وأثرت في الواقع السوداني وساهمت في تطور حزب الامة القومي وشكلت نقاط فارقة في تطور مجمل الأمة السودانية.
شعار السودان للسودانيين:
لعل الكثيرين لم يسمعوا بهذا الشعار الذي يمثل عنواناً لبرنامج متكامل وكان إستفتاء للإستقلال عن بريطانية ومصر، وبالرغم أن الحزب في ذلك الوقت ما كان يملك أغلبية إلا أن قوة الشعار ووضوحه، وأن الاحزاب المنافسة طرحت شعاراً مختلفا، يرسخ للوحدة مع مصر وضد الاستقلال الكامل، فقد جعل هذا الشعار الواضح كل الشعب السوداني يلتف حوله، حتى تحقق للوطن الإستقلال وقد كافأ الشعب الحزب بالتفويض في الإنتخابات اللاحقة.
أحداث مارس ١٩٥٣:
تلك كانت ثورة وكانت على شاكلة مواكب هذه الأيام السلمية ومن الضرورة معرفة التاريخ وبالرغم من أن حزب الأمة فقد شهداء كُثر في تلك الواقعة إلا أن النتائج كانت بحجم تلك التضحيات، فقد غيرت أحداث مارس ١٩٥٣م سير الأحداث ورجَّحت كفة المسير نحو الإستقلال الكامل، وبرهنت للمستعمرين وللذين يتبنون شعار الإستمرار تحت السيادة المصرية، مدى قوة التمسك بهدف الإستقلال التام الذي يمثله شعار السودان للسودانيين، الي أن تم التصويت الكامل لإستقلال السودان من داخل البرلمان وتم الإستقلال بقرار برلماني وطنى وبالإجماع حتى قبل الإستفتاء المقرر..
أحداث المولد ١٩٦٢:
وهذه تمثل حلقة من حلقات نضال الحزب ضد الدكتاتوريات وفقد فيها الحزب شهداء، ودون الدخول في تفاصيل النضال، فان دماء الشهداء عبر المراحل السياسية الوطنية المختلفة هي أكبر شاهد على دور هذا الحزب العريق في النضال ضد الحكومات العسكرية وقد توجت أحداث المولد ذلك النضال وقادت الي ثورة أكتوبر ١٩٦٤، كثورة وطنية عظيمة أزالت أول دكتاتورية وطنية ورسمت النموذج للإنعتاق من الأنظمة العسكرية في السودان والإقليمين العربي والأفريقي.
نضالات حزب الامة القومي ضد دكتاتورية نميري:
وتلك سلسلة طويلة من سلاسل النضال منها المدني السلمي ومنها المسلح، بدأها الحزب بالجزيرة أبا ١٩٧٠م ودفع ثمناً آلاف من الشهداء على رأسهم امام الأنصار. ومثلت الحركة الوطنية المسلحة عام ١٩٧٦م علامة فارقة في تاريخ ذلك النضال ضد حكم نميري الدكتاتوري الذي إنتهى بثورة مارس أبريل ١٩٨٥م التي كان قادة الحزب وجماهير في طلائع مفجريها، ومرة أخرى كافأ الشعب السوداني حزب الأمة القومي بالاغلبية البرلمانية في إنتخابات ١٩٨٦م.
النضال ضد نظام الانقاذ:
بدأ النضال منذ اليوم الأول بعد إعتقال رئيس الحزب رئيس الوزراء وإستمر عبر سلسلة طويلة من النضال المسلح عبر جيش الامة وتكوين التجمع الوطني الديمقراطي، ودوره في تحويل النضال الخارجي المدني والمسلح الى نضال داخلي جماهيري وسلمي، مما ساعد في تفكيك القبضة الأمنية لصالح بسط بعض الحريات النسبية التي ظلت في اتساع مما فتح الفرص لتدفق الجماهير في اللحظة الحاسمة.
وحزب الأمة القومي بإستثناء الفصائل التي إنشقت عنه ظل ضمن مجموعة صغيرة من الأحزاب التي لم تشارك الإنقاذ السلطة بل هو أكثر حزب دفع ثمن عدم مشاركته إذ أن كل من اراد المشاركة إضطر الى شق الحزب أو الإنفصال عنه ليحقق المشاركة.
ثورة ديسمبر ٢٠١٨ وحزب الامة:
ظل حزب الأمة القومي فاعلاً في كل مراحل هذه الثورة على كل المستويات، من مستوى الشارع الثوري، الى مستويات الحرية والتغيير، وفي داخل التنظيمات الثورية المهنية والاجتماعية والمطلبية والمناطقية. ودور حزب الامة الايجابي والقيادي في واقع اليوم لا يستطيع أن ينكره و لا يتجاوزه أحد، بل أن دوره الريادي في إبتداع التحالفات، لا يخفى على أحد وقد توجه بنداء السودان، ثم تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير كأكبر تحالف في تاريخ السودان الحديث.
حزب الأمة القومي اليوم كما يبدو هو أكثر الأحزاب مرونة وقدرة على تكوين تحالفات مستقبلية من أجل مصلحة الوطن وتماسك بنائه السياسي والاجتماعي وهو امر مهم لنجاح العبور بالتجربة من مرحلة الثورة الي الدولة المستقر.
شبهات حول حزب الامة:
هناك شبهات كثيرة تحوم حول حزب الأمة القومي في تاريخه ومواقفه، ومعظمها ناتج عن عدم قراءة التاريخ أو القياس الخاطئ أو في حالات بهدف التشويش المقصود.
من السهل الرد على هذه الشبهات ولعلها تحتاج إلى مقال آخر ولكن مختصر القول أنه حتى على مستوى الأفراد ليس هناك من هو مبرأ من الأخطاء دعك من أحزاب وتنظيمات كبيرة كحزب الأمة وهذا وارد في تاريخ الأداء السياسي.
فالديمقراطيات التي شارك فيها الحزب أو ترأسها بحكم أنه كان يمثل الكتلة الأكبر ولكنه لم يكوّن حكومة واحدة منفرداً ببساطة لانه في تاريخه منذ النشأة لم يحظى باغلبية بسيطة (٥٠٪+١) وبالتالي لم يحظى بفرصة لتنفيذ برنامجه كاملاً، علاوة على قصر تلك الفترات وتشاكس الفرقاء المتحالفين معه في تلك الحكومات مما أثر على الأداء في ظل ظروف وطنية ظلت دائمة التعقيد الي الآن.
التحية لحزب الأمة القومي في عيده الماسي والذي يستشرف فيه مرحلة جديدة على مستوى الوطن وعلى مستوى الحزب متمثلة في التأسيس الرابع..
التحية للاباء المؤسسين
التحية للمناضلين والشهداء
التحية لحاملي الراية المجددين
و التحية لشباب الحزب وقود الحاضر وبناة المستقبل والمحدثين الاقويا
د.ولي الدين الفكي / عضو المكتب السياسي لحزب الامة القومي
التعليقات