)1(
لماذا تصر الحكومة على تمرير موازنة “معلولة” في تجاهل تام للرأي العام، ودون اعتبار لتبعاتها الاجتماعية والسياسية؟ من الواضح أن ذلك لا يحدث صدفة، وحين تكرر الحكومة الأسلوب نفسه مع كل نتائجه الكارثية التي لا يزال يدفع الشعب ثمنها، فإن ذلك يعني شيئاً واحد أنها ليست معنية به، ولذلك لا تضع أي اعتبار للمواطن في حساباتها، وأن المخاطب الحقيقي بالموازنة أطرافاً خارجية تظن أن عندها حلولا سحرية لفشلها في إدارة الاقتصاد، وهو ما يفسر رهانها المستميت على حلول مستوردة، في ظل عدم إيمانها بحلول وطنية يكشف عنها عجزها في إطلاق مشروع تنموي وطني بنجاح متاح لبلد زاخر بالموارد، وبإطلاق طاقات التغيير في عملية البناء، وهو ما شهدته العديد من البلدان، على الرغم من فقر مواردها، التي توفرت لها قيادات ذات رؤية وبصيرة، وإرادة وطنية قوية وخلّاقة.
(2)
ما خلصنا إليه آنفاً ليس تحليلاً بل ما تثبته وثائق منشورة سبق أن تناولناها بالتفصيل في هذه الزاوية، فقد بذر مأزق الحل الأجنبي منذ الاجتماع الرابع لمجموعة أصدقاء السودان، بالمناسبة أين هي ولماذا توارت فجأة؟، بواشنطن في أكتوبر 2019، عقب الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين، وبعد بضعة أسابيع من تشكيل الحكومة الانتقالية، والذي تم فيها رسم مسار للإصلاح للاقتصادي يفرض نموذج الإصلاح الهيكلي لصندوق النقد، مقابل وعد برعاية مؤتمر للمانحين الذي تعثر قيامه حتى خواتيم يونيو من العام الماضي في برلين، وبعد أن تمكّنت المجموعة من ضمان إخضاع الحكومة لهذا المسار.
(3)
ففي الاجتماع السابع للمجموعة في باريس في مايو 2020 تم التوقيع على ما يُعرف بإطار الشراكة بين الحكومة والمجموعة، والذي يرهن بوضوح تقديمها لأي مساعدات للسودان على مدى التزامها بالتنفيذ الكامل لبرنامج الإصلاح الهيكلي تحت إشراف الصندوق، وهو ما أجبر الحكومة على توقيع اتفاق برنامج للتحرير مراقب من قبل موظفي الصندوق في 23 يونيو 2020 قبيل يومين فقط من انعقاد مؤتمر برلين.
(4)
ولكن ذلك لم يكن كافياً لتحصل الحكومة على ما كانت تأمله من مساعدات مالية، وقد أعلنت وزيرة المالية أنها ستحصل على 90% من تعهدات مؤتمر برلين البالغة 1,8 مليار دولار قبيل نهاية العام 2020، وفي الواقع لم يتم يدفع سوى خمس هذا المبلغ لمشروع دعم الأسر، ومن الواضح أن تلكؤ المانحين حدث لأن الحكومة لم تستطع تنفيذ التزاماتها وفق اتفاقها مع صندوق النقد بتحرير سعر الصرف، ورفع الدعم عن السلع والخدمات، وهو ما يفسر قيام وزارة المالية على عجالة برفع أسعار الوقود والكهرباء قبيل إجازة الموازنة الجديدة في محاولة للاستجابة لهذه الشروط القاسية بغض النظر عن كلفتها الاجتماعية، ودون تحسب لتبعاتها السياسية، في سباق مع الزمن لإرضاء المانحين.
(5)
أما المعضلة الكبرى التي تواجه الحكومة للوفاء بشرط تعويم سعر الصرف، في ظل عدم توفر احتياطيات نقد أجنبي مقدرة للبنك المركزي تمكنه من السيطرة على معدلات سعر الصرف حال تحريره، وهو ما يعني انهياراً فلكياً محتوماً لسعر صرف الجنيه، في ظل عدم وجود أية جهة خارجية مستعدة لتوفير هذه الاحتياطيات اللازمة، والمفارقة أن المليارات التي تحاول الحكومة الإيحاء بأنها تدفقت عليها من الولايات المتحدة لا تعدو أن تكون عملية إلهاء للرأي العام، ذلك أن الحصول على هذه التسهيلات لمعالجة قضية المتأخرات لا يكفي ما لم يقر صندوق النقد بنجاح الحكومة في تطبيق برنامجه، ولن تستطيع الحكومة القيام بذلك بدون الحصول على موارد معتبرة من مانحين دوليين سواء لسد عجز الموازنة أو لبناء احتياطيات للبنك المركزي، هكذا تكون البلاد دخلت حالة دوران في حلقة مفرغة.
(6)
لا خلاف حول ضرورة إجراء إصلاح اقتصادي، ولكنه مستحيل وفق سياسات الصندوق لأنها تفتقر لأدنى المعطيات الموضوعية لإنجاحها، والشاهد أن البلدان تلجأ عادة إلى تبني سياسات الإصلاح الهيكلي لأن ذلك يمكنها من الحصول على مساعدات مباشرة من الصندوق لإنجاحها، أما في هذه الحالة الشاذة فالمطلوب من السودان أن يقوم بهذه الإصلاحات القاسية في زمن وجيز بمفرده دون أي عون، والنتيجة كما تقول الطرفة ستكون “موت المريض ونجاح العملية”.
المقالات
التعليقات