ما يجعل اغتراب السوداني مفتوحا هو أنه كلما تقدم الزمان قليلا رجع السودان الى الوراء كثيرا، وبهذا يتوقف التفكير عن العودة الى الوطن، وتصبح المسألة “خلينا نلعب على المضمون ونبقى حيث العلاج والقوت والضروريات متوفرة وحيث نستطيع ان نسند أهلنا في الداخل ونوفر لعيالنا تعليما معقولا”، وما لا يدركه كثيرون هو أنه لولا وجود نحو ثلاثة ملايين مغترب سوداني لهلك نحو 15 مليون سوداني من المرابطين داخل الوطن بإحساس من يقيم مكرها في بيت الطاعة، ولا يعني هذا ان هناك من يكره وطنه، بل يعني الأزمات الخانقة تجعل الحياة داخل الوطن مُرَّة، ويجعل العين كليلة لا ترى ما حولها من جمال
حتى قبل أعوام قليلة كانت تحويلات المغتربين الى الوطن نحو 5 مليار دولار سنويا، وخلال السنوات السبع الأخيرة ظلت هذه المليارات تمر عبر جيوب سماسرة العملات قبل ان يصل جزء منها الى مستحقيها؛ (وحرروا سعر صرف العملات ولكن البنوك السودانية لم تتحرر من التخلف)، يعني إعاشة الملايين لم تكن وليست إلى اليوم مسؤولية الحكومة، ومن تجربتي الشخصية فقد كنت في سنوات الاغتراب الأولى ملتزما فقط بمصاريف أمي الشهرية، ولم يكن هناك قريب او بعيد يحتاج مني الى عون مادي، بل أذكر يوم رفعت مصاريف الوالدة الى خمسين جنيه شهريا صاحت: إن مليكا مِنا كيلي (ماذا افعل بكل هذا؟)
وشيئا فشيئا صار المغتربون مسؤولين عن الخدمات في قراهم وبلدانهم يتولون بناء وصيانة المدارس والمراكز الصحية، ومعروف ان أبناء الشمال وفروا معظم المبالغ اللازمة لرصف طريق شريان الشمال، وفي التاريخ القريب تولى المغتربون قبل عام تمويل جهود مكافحة الكورونا، وفي قطر قامت مبادرتا “أيدينا للبلد” و”حنبنيهو” بإرسال معينات طبية قيمتها مليون ونصف المليون ريال، وفي حملة دعم منكوبي السيول ارسلنا من قطر مئات الأطنان من الأغذية والملبوسات والأدوية
وقبل يومين شرعنا في رابطة خريجي جامعة الخرطوم في قطر في الإعداد لتحويل المكتبات في كل الجامعات السودانية الى الكترونية عير سوبر كمبيوتر يربط بينها على ان تتولى الرابطة تمويل الاشتراك في المكتبات الأجنبية حتى يتسنى للطالب السوداني متابعة المستجدات في مختلف صنوف العلوم والمعارف، وشخصيا أفخر بأنه كان لي شرف انشاء اول مكتبة للمكفوفين في جامعة الخرطوم باستخدام برمجيات
Optical character recognition
(وأشعر بالحرج وأنا أتكلم عن شيء أنجزته ولكنني اريد اخراس من يتساءلون كلما جاء الحديث عن المغتربين: ماذا قدمتم للوطن؟) هذا بالطبع غير ما ظل المغتربون يوردونه عبر السنين من جبايات تعسفية وزكاة وتحويلات الزامية، ومع هذا يعاملون ك”أهل الذمة” ودخولهم البلاد وخروجهم منها مقيد بإجراءات ظالمة (تخيل ان يأتي مغترب للعزاء في فقيد عزيز ليومين، ولكنه يضطر الى البقاء لخمسة أيام بسبب إجراءات تأشيرة الخروج، فتخصم منه جهة عمله راتب ثلاثة أيام بل وقد يتم اعتباره مستهبلا ومتسيبا)
ومع هذا لم ولن يرفع المغتربون أيديهم عن أهلهم والبلد بلدنا ونحن “أسيادها”

التعليقات