(1)
فركت عيني مرتين لأتبين إن كان البيان الصادر يوم الخميس الماضي باسم قادة قوات الحركات المسلحة – مسار دارفور حول تأخر تنفيذ الترتيبات الأمنية لاتفاق جوبا صادر فعلاً عن القادة الخمسة المو قعين بأسمائهم في ذيل البيان ممثلين للحركات الخمس التي انضمت في الأشهر الماضية للحكومة الانتقالية، ولولا أنني شاهدت قبلها بأيام بعض القادة يتحدثون في مقابلات وفيديوهات متداولة انتقادات حادة مماثلة لما تضمنها هذا البيان، فضلاً عن مسارعة المتحدث باسم القائد العام للقوات المسلحة يكتب رداً عليها لظنّ المرء أنها من قبيل الفبركات التي باتت تملاً الأسافير بلا حسيب ولا رقيب.
(2)
ودون الدخول في تفاصيل الجدل بين الطرفين وقد مواقف باتت منشورة ومتاحة في الوسائط المختلفة، فإن الأهم من ذلك كله التنبيه لخطورة هذا التطور المثير للقلق ومآلاتها المنذرة في بلد لا تنقصها المزيد من الأزمات الحادة السياسية والاقتصادية والاجتماعية واحتقان الشارع، لتزيد الأمور ضغثاً على إبالة باندلاع هذا التنازع على الملأ في مجال لا يحتمل تبادل مثل هذه الاتهامات المتبادلة والتشكيك الغليظ في النيّات بين أطراف مسّلحة في وقت تزايدت فيه التفلتات الأمنية في قلب العاصمة على نحو غير مسبوق، فضلاً عن الشكوك والهواجس التي تغشى غالب المواطنين التي رافقت انتشار المظاهر المسلّحة، ومع هذا الاحتقان الجديد أصبحت الأوضاع حرفياً على فوهة برميل بارود لا يحتاج لأكثر من حدث عارض لحدوث ما لا يُحمد عقباه.
(3)
ومع خطورة هذا التطور الذي مرّت عليه السلطات مرور الكرام على الأقل فيما يتعلق بإشعار الرأي العام أنها تأخذه بجدية وتعمل على معالجته قبل أن يتفاقم ولا يمكن تدارك عواقبه الوخيمة وهو احتمال غير مستبعد في ظل ما عهده الناس من تباطؤ وضعف حساسية الحكومة في التصدي لمسؤوليتها، إلا أن الرسالة الأكثر أهمية التي ينبئ عنها هذا التجاذب بهذه المواقف الخشنة واللغة المحتشدة بصنوف التشكيك والاتهامات الغليظة بين أطراف لم يجف بعد الحبر الذي وقعّت به على اتفاق جوبا الأول مع مفاوضات متطاولة، ولا يزال في بداية خطوات تنفيذه، يكشف أن كل تلك الاحتفالات والمهرجانات التي رافقت مراسم التوقيع لا تعدو أن تكون مجرد خطب سياسية جوفاء، وأن كل تلك الصورة الزاهية التي رسمت في خطب القادة وهي تحدث الرأي العام عن فرادة هذا الاتفاق وتميّزه، وعن وضع الحرب لأوزارها، وعن آفاق السلام والازدهار التي تنتظر البلاد، لم تكن كلها سوى استعادة مكرورة لسيناريوهات الفشل التي لازمت اتفاقيات السلام التي لا يعرف لها أحد عدّاً من كثرتها في ظل العهد السابق سوى أنها صفقات قصيرة النظر لاقتسام مغانم السلطة والثروة، وللمفارقة مع غالب الأطراف الحالية ذاتها، ومع ذلك لم يتحقق السلام المنشود.
(4)
في واقع الأمر ربما لم تبتذل كلمة بكل معانيها السامية كما ابتذلت قيمة السلام في الخطاب السياسي السوداني ووسط محترفي السياسة، ولعل السودان هو البلد الوحيد في العالم الذي تتخيل طبقته السياسية أن بوسعها إعادة اختراع العجلة، أن تعيد ممارسة الأخطاء نفسها ثم تتوقع حدوث نتائج مختلفة، كان الظن أن تغيير النظام السابق سيفتح الباب واسعاً أمام مقاربة جديدة كلياً في إعادة تأسيس الدولة السودانية وفق قواعد جديدة كلية مع الأخذ في الاعتبار عظات الفشل المستدام منذ الاستقلال في التوافق على مشروع وطني جامع، وكان الظن أن ثورة ديسمبر ستنفخ روحاً جديدة في عقول وشرايين الطبقة السياسية تفارق بها تكلسها، ولكن أبت إلا أن تؤكد أن تغيير النظام لا يعدو إلا أن يكون تغيير وجوه بوجوه، وأن ذهنية السوق السياسي والسعي لاقتسام غنائم السلطة لا تزال هي المتحكمة.
(5)
لو كان للبيانات الملتهبة المتبادلة بين أطراف اتفاق جوبا الأول من قيمة استثنائية فهو في توقيتها، ولا أدري إن كان ذلك مصادفة، أن تصدر في الوقت الذي انطلقت فيه مفاوضات جوبا (2)، في تكرار مٌمل للسيناريو ذاته لأسلوب التفاوض ولأجندته، حتى يحار المرء في قدرة الممثلين الفائقة في هذا السيرك السياسي على تحمل لعب الدور نفسه، وإعادة إنتاج ما بات معلوماً من فشل مستدام، فهل يُعقل أو يتوقع أحد أن تحل مشاكل السودان فعلاً بالتفاوض حول القضايا نفسها مع كل طرف على حدة، ولا نزال في انتظار مفاوضات جوبا (3)، ولا أحد يدري إن كانت ستقف عند هذا الحد.
تجزئة التفاوض حول قضايا السودان لن تنتج سوى صفقات ثنائية مفخّخة، وفي غياب مقاربة كلية شاملة على صعيد واحد، ليس لاحد أن يحلم بسلام.

التعليقات