(1)
العنوان أعلاه لا يقصد تبني تحليلا بشأن ما سوف يسفر عنه الدعوة لحراك شعبي يستعيد به الشارع زمام المبادرة، والذي تبنته القواعد الشبابية، التي بادرت بتفجير وقيادة ثورة ديسمبر المجيدة، لتذكير الطبقة الانتقالية الحاكمة باستحقاقات التغيير الذي نادت به ودفعت تضحيات جسيمة ثمناً له، ولا تزال تبحث عن تجسيد تطلعاته، ولا تجد تعبيراً عنه في أرض الواقع، ولا غرو أن التظاهرة المزمعة تسعى لاستعادة ذكرى المسيرة الكبرى في مثل هذا الوقت من العام الماضي التي استعادت المبادرة لروح الشارع بعد ردة جريمة فض الاعتصام.
(2)
(حلّة القطر قام) تعبير معروف في عالم (العزّاب) وهم يسابقون الزمن لإعداد وجبة سريعة يسدون بها رمقهم بوضع المواد كلها مرة واحدة في إناء الطبخ، يتجاوزون فيها عن كل الخطوات المعلومة بالضرورة في الأوقات العادية دون اعتبار لجودة ما يتذوقون.
المهم لم أجد غير هذا الحالة التي ذهبت مثلاً للتعبير عن إحساسي عند قراءة البيان الصحفي الذي صدر في ختام اجتماع تم الترويح لأهميته بين السيد رئيس الوزراء والسادة أعضاء المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، لم يكن سراً أنه قد تم الترتيب له كمحاولة استباقية لتخفيف الاحتقان وسط القواعد الشبابية قبيل موعد الـ 30 من يونيو، عسى أن يتخذ مساراً مختلفاً لا يصب في تحميل قوى الحرية والتغيير والحكومة الانتقالية أوزار التقاعس والعجز عن الوفاء بتطلعات الشارع بنتائج محسوسة على أرض الواقع، وليس بمجرد شعارات أو سوق مبررات لهذا التقصير المريع جراء تطاول حالة الفراغ القيادي، وغلبة صراع الأجندة الحزبية الضيقة، الذي يسيطر على المشهد.
(3)
ما دعاني للاستنجاد بمثل (حلة القطر قام)، أمران أولهما مسارعة عدد من القوى السياسية الأساسية في قوى الحرية والتغيير إلى إصدار إعلانات تزايد بها في الدعوة إلى المشاركة في مظاهرات 30 يونيو، وتحاول ركوب موجتها وتبني شعاراتها ومطالبها، في مناورة مكشوفة للالتفاف عليها واختطافها وتجييرها لصالح أجندتها في صراعاتها الداخلية مع شركائها في قوى الحرية والتغيير، في محاولة ساذجة للتحول من موقع المُساءل لدى الشارع عن دورها في العجز عن الوفاء باستحقاقات التغيير، لتلعب دور المسائل، هكذا ببساطة في محالة انتهازية للعب على كل الحبال، تلعب دور المشارك في الحكم والمستفيد من امتيازاته دون أن تتحمل التبعات
والمحاسبة على الإخفاقات، ثم تهرب عن المساءلة محاولة لعب دور المعارض للحكم الذي شاركت في تأسيس كل لبناته من التفاوض على الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية، وشغل هياكل الحكم الانتقالي، لتتنصل بذلك عن تحمل المسؤولية التضامنية في ائتلاف ظلت جزءًا منه، والاكتفاء بإلقاء اللوم على الآخرين، وهي ممارسة
لا تخدع به هذه القوى إلا نفسها، وتظن أنها في ستر وهي تقف عارية أمام الجماهير، وهو نمط من عدم الجدية يفسر أن الفشل الذي لازم الانتقال حتى الآن ليس صدفة، ولكنه نتاج مباشر لهذه الذهنية الانتهازية.
(4)
أما الأمر الثاني الذي استرعى انتباهي فهو أن هذه القوى السياسية نفسها التي اعتقدت أنها وضعت رجلاً في حراك الشارع، لم تتوان عن استخدام الضغط الناتج عن هذا الحراك لتسجيل المزيد من الأهداف لتمرير أجندتها والحصول على مكاسب بتوظيف اللقاء الذي ضم المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير مع السيد رئيس الوزراء بالأمس، ولعل الأمر الجديد الوحيد هنا انضمام القوى
الأخرى التي تبنت مواقف غير مؤيدة لمسيرة 30 يونيو، في تجيير مطالب الشارع لصالح تحقيق مكاسبها باعتبارها، هذه المكاسب الحزبية والمطالب الشعبية هما الشيء نفسه، في مفارقة أخرى تكشف غربة الشارع الثائر في أجندة القوى الحزبية الغارقة في حصد منافع تثبت أرجلها في لعبة السلطة، دون محاسبة أو مساءلة، ودون أن تقوم باستحقاقات ذلك.
(5)
ولعل أكثر الأمور طرافة في البيان الصادر عقب هذا الاجتماع
(المهم) ما ورد نصاً (فيما يتعلق بالقضايا العالقة فقد تم الاتفاق على
تفعيل إنفاذ كل بنود المصفوفة)!! الحمد لله أن تذكروا أخيراً أن هناك مصفوفة مضى عليها شهران ونصف، وقعوا بتصميم مغلظ على تنفيذها بآجالها، وها هو البيان يدعو لتنفيذ ما ورد فيها دون أن يجيب على السؤال الملح ولماذا فشل تنفيذها أصلاً، وتنفيذ ما أثبتته الوثيقة
الدستورية بكل جلاء من مهام وهياكل، ومن المسؤول على ذلك مع كل الصلاحيات والتحصين الذي كفلته الوثيقة للمكون المدني، بالطبع
لم يكن هناك ترف مراجعة نقدية أو محاسبة على تقصير، فالمهم هو
استخدام ضغط الشارع لتحقيق مكاسب حزبية عاجلة لا أكثر.
(6)
أما ثالثة الأثافي، فإنه بعد أن اطمأن القوم إلى أنهم ضمنوا ما يعتقدون أنه يخدم أجندتهم الحزبية من هذا الحراك، كانت رسالتهم للشارع (شكر الله سعيكم، ولا داعي للتظاهر، وخلوا بالكم من
صحتكم، و(صرفوا له ) كلاماً ساكتاً(حيث ) أكد الاجتماع أن ذكرى
الـ ٣٠ من يونيو القادمة تمثل ركيزة أساسية في مجرى الثورة وانتصارا لكل قيمها بعد الذي حدث في فض الاعتصام، وأسدى التحية للشباب والنساء الثائرين والثائرات الذين قدموا التضحيات الجسام من أجل هذا اليوم، وأكد الاجتماع أن حق التظاهر مكفول مع ضرورة مراعاة الضوابط الصحية اللازمة حتى لا يتضرر أحد)،
كلام والسلام، وهل من ضرر أكثر من هذا الاستهتار بتضحياتهم واستغلالها ، ليس من أجل مراجعة جذرية وإصلاح حقيقي، بل من أجل حصد نقاط في صراع حول لعبة سلطة بائسة.

التعليقات