إن مشوار البحث عن السلام الشامل في السودان ما زال طويلا ولم يصل بعد إلى نهاياته وغاياته المرجوة. فالاتفاق الموقع في مدينة جوبا في الثالث من الشهر الجاري بين الحكومة الانتقالية وقوى الكفاح المسلح والمجموعات المنضوية تحت لواء الجبهة الثورية، لا يشمل الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو ولا حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، إضافة إلى أن عدة جهات، كالمجلس الأعلى لنظارات البجا في شرق السودان وحركة قوات أسود الوطن التي أعلنت عن نفسها مؤخرا في غرب كردفان، اعلنت رفضها لمجمل ما تم في جوبا من تفاوض وإتفاق. لكن رغما عن ذلك، ورغم أي ملاحظات ناقدة لنصوص وثيقة الإتفاق، ورغم أن درجة حماس وتفاعل الشارع السوداني مع الإتفاق كانت ضعيفة، أو لا ترقى إلى مستوى الحدث، ربما بسبب تفشي الإحباط والمعاناة الخانقة من جراء الوضع الاقتصادي المنهار والأداء الضعيف للحكومة الإنتقالية لدرجة إهتزاز الثقة حيالها وإنغلاق الأفق مرة أخرى أمام الطموحات والآمال، فإن إتفاق جوبا لسلام السودان يُعد نصرا وطنيا كبيرا ما دام سينهي الحرب الأهلية ويوقف التقتيل والدمار، ولو جزئيا، وما دام سيفتح الطريق، ولو جزئيا أيضا، لمواجهة حلقات الأزمة السودانية المزمنة، والتي ازدادت استفحالا في ظل النظام البائد. إن تنفيذ إتفاق السلام، غالبا ما سيكون أصعب وأكثر تعقيدا من عملية التفاوض التي أنتجته، وستواجهه الكثير من التحديات وتضاريس الانتكاس، ولكن كلها يمكن تخطيها وهزيمتها متى ما تسلحنا بالإرادة القوية وحسن الإدارة. وفي هذا الإتجاه، عَنَّتْ لي بعض الملاحظات والإشارات الأولية السريعة، أطرحها لمزيد من النقاش والحوار، وبحث إمكانية إتخاذ خطوات عملية وملموسة بشأنها:
الإشارة الأولى، تستند إلى حيثية يرددها الكثيرون، وهي أن السلام سيظل منقوصا ومهددا بالإنتكاس ما لم يستكمل، وبأقصى سرعة، بجهد مماثل مع الحركة الشعبية شمال/عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان/عبدالواحد محمد نور. هذا الجهد المماثل، أعتقد يجب أن تبذله الحكومة سعيا للتوصل إلى إتفاق مع الحركتين، ومن ثم العمل على عقد مؤتمر جامع يستصحب كل الاتفاقات السابقة الموقعة إبان عهد الإنقاذ، والحركات التي وقعت عليها، مثلما يستصحب القوى السياسية والمدنية الأخرى، للخروج بمشروع للسلام الشامل في السودان، مجمع عليه، يحقق الإستقرار السياسي والأمني، ويخلق واقعا جديدا يوفر مناخا ملائما للتفاعل السياسي السلمي في البلاد، يجب أن تستثمره كل القوى السياسية والإجتماعية المناضلة من أجل تحقيق أهداف ثورة ديسمبر/كانون الأول العظيمة، ولصالح المواطن السوداني الذي ظل، ولا يزال، يحصد البؤس والشقاء.
ونقول في الإشارة الثانية، أن المنطق السليم يدفع بأن ينصب كل إهتمام وجهد الموقعين على الإتفاقية، في مخاطبة القضايا الجوهرية والمصيرية التي تضمنتها، والتي هي سبب غياب السلام، وعدم قصر الاتفاق على مجرد التغيير السطحي والشكلي، وحصره في المحاصصة وتوزيع كراسي السلطة بين القوى الموقعة عليه. وفي هذا الصدد، ومباشرة بعد عودتهم إلى البلاد، أرى أن يتوجه قادة الحركات الموقعة إلى مناطقهم التي إكتوت بنيران الحرب، للتبشير بإتفاق السلام، وللإستماع إلى آراء ومطالب سكان تلك المناطق التي كان التفاوض يتم بإسمها.
من الطبيعي أن تصبح القوى الموقعة على اتفاق السلام جزءا أساسيا في الحاضنة السياسية الحاكمة للفترة الإنتقالية. وهذا يتطلب إعادة النظر في هيكل وتركيبة الحاضنة السياسية الحالية، تحالف قوى الحرية والتغيير، وذلك في إتجاه توسيعها وإعادة هيكلتها لتقوم بدورها المنشود في متابعة أداء أجهزة الحكم الإنتقالي، ومتابعة تنفيذ الترتيبات الإنتقالية، بما في ذلك ما هو متوقع من إعادة النظر في الوثيقة الدستورية وتعديلها، لا لتشمل ما جاء في اتفاق السلام وحسب، بل لتتم مراجعتها على ضوء التجربة والممارسة خلال المرحلة السابقة من عمر الفترة الإنتقالية وما برز من سلبيات وقصور في الوثيقة. وهذه هي إشارتنا الثالثة، وفيها نقول أيضا إذا ما أردنا تفادي، أو التقليل من، سلبيات أداء الأجهزة الإنتقالية، فليكن تكوين المجلس التشريعي والمفوضيات القومية في قمة أولويات تنفيذ الإتفاق.
أما بالنسبة لإشارتنا الرابعة، فما دام الاتفاق أقر بتميد الفترة الإنتقالية ابتداءً من تاريخ التوقيع النهائي، وأن القوى الموقعة على الاتفاق سيتم تمثيلها في أجهزة الحكم الانتقالي، وأن عمر هذه الأجهزة قد تخطى العام في إدارة البلاد بأداء ضعيف وغير مقبول في تنفيذ أهداف الثورة، أرى أن تكون ضربة البداية عند دخول الاتفاقية حيز التنفيذ هي تقييم وتقويم أداء الاجهزة الانتقالية وإعادة هيكلتها، تعديلا أو تغييرا كليا. فبالنسبة لعدد أعضاء مجلس السيادة، أرى الإبقاء على ما أقر في الوثيقة الدستورية، 11 عضوا، وإن كنت أتمنى تقليص هذا العدد، ولا معنى لإضافة ثلاثة أعضاء جدد لننتهي بمجلس سيادة/رأس دولة مترهل من 14 عضوا، وربما 16، لن يجلب لنا سوى استنزاف الموارد والسخرية! فإذا كان لا بد من إلحاق ثلاثة من قيادات الحركات بمجلس السيادة، فالصحيح في نظري هو استبدال ثلاثة بثلاثة. أما مجلس الوزراء، فإن أداءه يكاد يؤول إلى الصفر، حتى وصلت معاناة الناس حدا لا يطاق، وربما تخرجهم إلى الشارع قريبا، في ظل غياب المجلس التشريعي الذي كان يمكن أن يراقب أداء الحكومة ويسحب الثقة منها، وفي ظل الضعف والشلل المتمكن من قوى الحرية والتغيير، الحزب الحاكم، وفي ظل أن وجود أو غياب سبعة وزراء أساسيين لأكثر من شهرين لم يفرق. أعتقد لا بد من إعفاء كل مجلس الوزراء، وإعادة تشكيله بدماء جديدة.
الإشارة الخامسة والأخيرة، هي أن تتجه جهود كل المسؤولين في التركيبة الجديدة للفترة الإنتقالية، قدامى وجددا، لعلاج الوضع الاقتصادي المتردي إلى درجة خطيرة، وأن يتصدر هذا الأمر قمة الأولويات، إذ لا سلام مع إقتصاد منهار!.

التعليقات