(1)
طارت الأسافير في الأيام الماضية بملابسات تبرعات شركات التعدين، وما رافقها من جدل بشأن دور الشركة المنظّمة للقطاع في ذلك، وما قيل عن توظيفها للانفاق على احتفالات تنصيب حاكم دارفور، لست معنياً هنا بمناقشة هذه المسألة، ولا تفاصيلها، على عوارها الظاهر للعيان وفق ما تقضتيه النظم المرعية سواء في إدارة المال العام، أو في علاقة السلطة ورجال الأعمال وتقاطع المصالح الذي لا يحتاج إلى بيان، ولكن مع فظاعة الفعلة، ودون التقليل من شأن هذه الممارسة المفارقة بلا شك لروح الثورة، وطلب التغيير، وتحقيق أهداف الحكم الراشد الذي أؤتمنت عليه الحكومة الانتقالية، التي تظل تثبت بين كل حين وآخر أنها تعيش في كوكب آخر لا علاقة له مضمون الشعارات المرفوعة، هل فعلة قطاع التعدين المنكرة هذه هي جوهر أزمتنا اليوم، أم هي مجرد انعكاس لواقع أعمق سوءً، ودلالة على ما هو أكثر خطراً وأبعد أثراً.
(2)
صحيح أن كثيراً من الناس استفظع وقائع ما حدث، وما يستوجب بالضرورة المحاسبة والمساءلة عليه، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون غاية ما ينتظره دعاة التغيير الحقيقي، وإلا انطبق الحال عليها بتلك الحكمة المروية ودلالة مفارقتها للمنطق في شأن طلب فتوى إهراق دم ذبابة في الحرم من قوم لم يجدوا غضاضة ولا حاجة لفتوى وهم يهرقون دم الحسين بن علي، فذهبت مثلاً في التعبير عن قمة الإلهاء الانصرافية في النأي عن الوقوف عند عظائم الأمور انشغالاً بالسفاسف منها. وإن لم تكن كذلك قياساً على وزن الجرم الأكبر. ذلك أن الانشغال بفعلة قطاع التعدين خارج السياق العام لذي جرت فيه، وعزلها عنها، وانتظار إجراء حاسم بشأنها من قمة السلطة التنفيذية لا تعدو أن تكون عملية إلهاء بامتياز عما هو أكثر الخطر توفر البيئة السياسية والسلطوية المحفزة لهذا النوع من الممارسات والحاضنة المنتجة لها المنتجة لها بأشكال شتى.
(3)
مع الإقرار بأهمية ودور الوازع الفردي، قبل المؤسسي، في إدراك صحة ما يجب فعله في سياق مقتضيات الاستقامة الأخلاقية محققاً للشعارات المرفوعة، فإنه من الصعب أيضاً تصور أن الإقدام على هذه الممارسة هو فعل فردي يأتي منفصلاً من البيئة العامة، فالاستسهال الذي تم التعامل به في جمع هذه الأموال دون الإحساس بأنه عمل خارج نصوص وروح القانون واللوائح المنظمة لإدارة المال العام، مع ما يُفترض أنه يدخل في باب التقاليد المرعية حتى ولو لم تكن مكتوبة، يعطي انطباعاً بأن الخروج على مجمل هذه النظم المؤسسية بات ممارسة فاشية في ظل الحكم الجديد، حتى بعد التغيير، لدرجة أن هذه المؤسسة الحكومية اعتبرت اقتراف مثل هذه المخالفات أمراً مألوفاً في اتخاذ قرار بمثل هذا الشأن لم تتوقع أبداً أن يثير كل هذه النقاش الساخن في الفضاء العام، وهو ما يظهر جلياً في محاولة التبرير الفطيرة لدفع الهجمة عليها.
(4)
بالطبع ليس القصد هنا سوق مبررات للتخفيف عن هذه الفعلة، ولكن ردها إلى أصلها في سياق التنبيه إلى أن المشكلة أكثر عمقاً عند تشخصيها، وبالتالي ما يتطلبه العلاج الناجع لها، ذلك أن الخشية تأتي من التعاطي معها وكأنها مجرد ممارسة فريدة في نوعها معزول عن محيطها العامة، تستهدف مؤسسة بعينها، أو أشخاصاً بأعينهم، بحيث يتم الاكتفاء في أحسن الأحوال باتخاذ إجراءات محدودة في هذا الحيز، هذا بالطبع إذا كات هناك إرادة عليا حقيقة حريصة على ذلك فعلاً، وهو ما سينتهي بها الحال إلى تحقيق نصر صغير يعطي مفعول ارتياح من نوع ما وسط الرأي العام بأن القضية عولجت كما ينبغي لها، ولكن في واقع الأمر لن تعدو أن تكون محاولة محدودة لإلهاء الرأي العام عن استحقاقات الإصلاح الجذري الشامل لممارسات استغلال المنصب العام والنفوذ في تجاوز القانون.
(5)
سيظل مأزق الحكم الانتقالي الراهن المنتج لكل الاختلالات الراهنة يعود بالأساس إلى أن قضية احترام القانون وبسط سيادته غائبة تماماً في أجندته على أعلى المستويات وسط شركاء المعادلة الراهنة، ولا أدل على ذلك من أن الوثيقة الدستورية ، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف حولها، تظل هي المرجعية الوحيدة الحاكمة والمعتمدة لإدارة الانتقال، ولكن ها قد مر عامان على تبنيها من قبل الشركاء وهي مثقلة بالخروقات الخطيرة لأغلب استحقاقاتها دون أن يكون ذلك هو مصدر القلق الحقيقي على مستقبل العملية الانتقالية برمتها، فالبلاد لا تزال بلا مؤسسات عدلية مكتملة الأركان، وبلا جهاز تشريعي رقابي لا غنى عنه، وبخروج لا جدال حوله في تأسيس الصلاحيات والالتزام بحدودها، ومن المؤكد أن ذلك كله لا يحدث صدفة بل نتيجة تواطؤ للطبقة الحاكمة الجديدة، فقد أخذت من الوثيقة ما يناسب ويعزز قبضتها على السلطة، ولتمتنع عن إقامة أية مؤسسات تأتي خصماً على هذا الاحتكار المكشوف للسلطة، هذه هي البيئة المنتجة فعلاً لفساد تغييب حكم الدستور، وغياب المؤسسية، هذا ما يحتاج لأن يثور الرأي العام لأجله، وليس الانشغال بأعراضه.

التعليقات