بقلم: علي صالح
تكشف هذه القصة التي تأتي في سياق قصص الحرب والجاسوسية ودهاليزها الخفية في ليبيا، عن مزيد من فصول التدخلات الخارجية ، استغلالاً لحالة الفوضى التي ضربت ليبيا منذ سقوط نظام القذافي في العام 2011، ولا تقف محاولات التدخل هذه عند ليبيا، بل تتعداها الى دول أفريقية أخرى من بينها السودان.
بدأت القصة الجاسوسية المثيرة في مارس من العام 2019 عندما وصل إلى ليبيا عالم إجتماع روسي ويدعى مكسيم أناتوليفيتش شوغالي (54 عاماً) يرافقه مترجم خاص ويدعى سامر سويفان. وصل الرجلان الى مطار طرابلس عبر طائرة تجارية تتبع للخطوط التركية بهدف إنجاز مشروع بحثي، تديره مؤسسة روسية تطلق على نفسها اسم مؤسسة “حماية القيم الوطنية” وتهدف إلى النشر والترويج وحماية المصالح الروسية حول العالم.
وذات صباح صيفي في مايو من العام 2019 كان شوغالي ومترجمه سامر سويفان، يرافقهما نجل وزير خارجية النظام الليبي السابق علي التريكي ، يتجولان في ميدان الشهداء بالعاصمة طرابلس، ويستوقفون المارة لاستطلاع آرائهم عن الأوضاع الجارية في البلاد، ومدى رضاهم عن الحكومة الحالية، وتحركات الميليشيات المسلحة، وفي الوقت ذاته، كان هناك فريق روسي آخر يجوب المدن الليبية لاستكمال مهمة، قِيل إنها “بحثية تستهدف جمع معلومات سياسية واجتماعية”.
أوقفت السلطات الليبية الفريق الروسي للتأكد من مهمته في ليبيا، لا سيما أن شوغالي دخل الى البلاد بصفته عالم إجتماع حسب الأوراق الرسمية، حيث يعمل في منظمة أفريك، وهي منظمة يديرها رجل الأعمال الروسي الروسي، رئيس شركة فاغنر الروسية للمرتزقة يفغيني بريغوجين ، وهي منظمة متخصصة في التلاعب والتدخل في الإنتخابات، وترتبط هذه المنظمة بوكالة أبحاث الأنترنت التي تعود لـ بريغوجين نفسه الملقب بـ”طباخ الرئيس” بوتين، و عملت هذه الشبكة الإعلامية المضللة على التدخل والتأثير في الإنتخابات في العديد من الدول من بينها انتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016 وإنتخابات مدغشقر في العام 2018 ، وإلإنتخابات في جنوب أفريقيا وتشويه سمعة المنافسين، بالتالي فإن عملية القبض على الفريق الروسي في ليبيا زادت من طرح الأسئلة عن مدى اختراق ليبيا من قبل استخبارات دول أجنبية تستغل الفراغ الأمني والإنتشار الكثيف للمليشيات.
أثناء عمليات البحث في مقر إقامة شوغالي ومترجمه تم العثور على 50 ألف وثيقة سرية، كما تم العثور على معلومات في الحواسيب والهواتف الشخصية في غاية السرية، تثبت أن شوغالي عالم الإجتماع الروسي ومترجمه ما هما إلا جاسوسين يعملا لصالح شركة فاغنر الأمنية للمرتزقة الروس ، وأثبتت التحقيقات أن شوغالي ومجموعته تعمل على التخطيط للتدخل في الانتخابات الليبية التي كان من المزمع إجراؤها لولا تصاعد القتال في ليبيا.
وعثرت النيابة الليبية في مقر إقامة شوغالي ومترجمه على أختام رسمية مزورة وذلك لإتمام إجراءات مالية، والكثير من المعلومات وجدت في الوثائق وأجهزة الكمبيوتر وهواتف الجاسوسين، وكان يرافق شوغالي جاسوساً روسياً آخر وهو الكسندروفيتش بروكوفييف، لكنه فر من مسكنه قبل القبض عليه.
وعلى الفور إتهمت النيابة شوغالي بالعمل بالتجسس والعمل لصالح رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوجين و شركته الأمنية الخاصة فاغنر، وقالت النيابة أن شوغالي سبق له أن لعب دوراً مشابهاً في دول أفريقية عدة، ووفق تصريحات الحكومة الليبية، فإن شوغالي عمل خلال وجوده في ليبيا على إرسال تقارير يومية لرؤسائه ركزت على الأوضاع العسكرية والاقتصادية في ليبيا، كما التقى شوغالي سيف القذافي المتهم بارتكاب جرائم حرب في ليبيا، أكثر من مرة”. وكشف بيان الحكومة أن شوغالي “عمل على دعم عودة سيف الإسلام للحكم في ليبيا في الإنتخابات الرئاسية المرتقبة ، والتأثير في الانتخابات البلدية لترشيح موالين لروسيا”. وأشار البيان الى أن الهدف الرئيسي للتجسس هو معرفة امكانية قيام قاعدة عسكرية روسية في ليبيا، والسيطرة على صناعة البترول والغاز الليبي”.
دون سابق إنذار، وفي ديسمبر من العام 2020 غادرت طائرة روسية خاصة مطار معيتيقة الدولي بطرابلس متوجهة الى مطار شيريميتييفو الدولي بالقرب من العاصمة الروسية موسكو، وهي تحمل في جوفها الجاسوسيين الروسيين بعد ما وضعت حكومة الوفاق الليبية نهاية لقصة اعتقالها وإطلاق سراحهما بشكل مفاجئ، حيث طلب مكتب النائب العام في رسالة وجهها إلى إدارة مباحث الجوازات إبعاد كل من مكسيم شوغالي وسامر سويفان عن الأراضي الليبية.
بعد قضاء الجاسوسين الروسيين أكثر من عام ونصف في السجون الليبية، تم ترحيل مكسيم شوغالي وسامر سويفان، ولكن بعد أن عرضت شركة فاغنر الروسية دفع 18 مليون روبل روسي (نحو 250 ألف دولار) للافراج عن الرجلين.
في تقريرها الذي نشرته صحيفة المرصد الليبية في يونيو 2020 نقلاً عن تقارير إستخباراتية، ركزت الصحيفة على خلفية شوغالي وتاريخه مؤكدة أنه جاسوس روسي بامتياز ومستدلة على ذلك بأن شوغالي ومترجمه اعتقلا بعد لقاءهما سراً بـ سيف الإسلام ، والذي يجد من نفسه بديلاً لإستلام الحكم في ليبيا.وأشارت الصحيفة الى أن السجينان اللذان رفضا الاعتراف بأنهما جاسوسان، لم يقدما أي دليل لإثبات برائتهما، عن دوافع لقاءهما بسيف الإسلام، ولماذا احتوت حواسيبهما على معلومات غاية في الخطورة عن ليبيا، مشيرة الى ان شوغالي عالم الاجتماع المزعوم، هو ناشط سياسي مخضرم كان له صولاته وجولاته في سان بطرسبرغ بروسيا خلال نزاع انتخابي حدث في العام 2002، مما يبعد عنه صفة الباحث، خاصة بعد الكشف عن عمله لصالح “يفغيني بريغوجين” الذي يدير مرتزقة الفاغنر سيئة السمعة. فمجرد ورود اسم طباخ بوتين في أي ملف دولي، فإن ذلك يعني أن الملف المذكور وهنا نقصد – ليبيا وصلات شوغالي بها- ، تؤكد بدون أدنى شك على ضلوع مرتزقة الفاغنر في ذلك الملف، وهو ما يفسر الكثير من الغموض حول إرسال شوغالي إلى ليبيا.
الكشف عن عمل الجاسوس الروسي شوغالي يوضح بشكل قاطع من أرسله إلى ليبيا والغرض من إرساله هناك، وللعلم أن آلية التدخل الروسي في الإنتخابات سرية ومعقدة، ولكن الغرض منها بسيط جداً، إذ إن روسيا تستخدم كل الأدوات الممكنة لقلب الثورة المناهضة لنظام القذافي، و تنصيب سيف الإسلام القذافي كديكتاتور جديد لليبيا، و شوغالي هو مكون رئيسي في هذه العملية السياسية العسكرية، لتأمين حصة كبيرة من ثروة ليبيا النفطية لرئيسه يفغيني بريغوجين وبالتالي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
حاولت موسكو طيلة فترة إعتقال الجاسوسين الروس الضغط من أجل اطلاق سراحهما دون جدوى، وهو الأمر الذي دفع المؤسسة الروسية التي أرسلت شوغالي ومترجمه إلى تمويل فيلم دعائي عن المعاناة التي تعرض لها شوغالي ومترجمه.
لا يخفي مكسيم شوغالي دعمه اللامحدود لعودة نظام القذافي الى الحكم في ليبيا عبر نجله سيف الإسلام القذافي، وقال شوغالي في لقاء مع صحيفة بلومبرج الأمريكية نشر عقب الإفراج عنه أن عودة سيف الإسلام القذافي ستعمل على إعادة ليبيا إلى ما قبل الحرب، خاصة بالنسبة للذين يرون في سيف الإسلام سياسيًا يمكنه مواصلة عمل والده.
وبالنسبة لسؤال حول المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي وإمكانية إزالة العقبات القانونية أمام ترشيح نجل القذافي، وصف شوغالي المحكمة الجنائية بـ “منظمة تافهة” منتقداً محاكمتها للرئيس المخلوع عمر البشير في السودان.
شوغالي الموجود حالياً في العاصمة الأفغانية كابول يمثل الدور الروسي المتزايد وإنتشار مجموعة فاغنر في مناطق الصراعات والنزاعات. حيث وصل شوغالي إلى العاصمة الأفغانية كابول، في الخامس والعشرين من أغسطس الماضي عقب إستيلاء حركة طالبان على الحكم وذلك “لإجراء تحقيق إجتماعي مستقل” و دراسة الوضع الحالي والتحدث مع السكان المحليين حول التغييرات السياسية التي حدثت، حسب ما ذكرت مؤسسته.
يبدو أن مكسيم شوغالي لم يفهم الدرس الليبي جيداً، فقبل إقلاع طائرته المتوجهة مطار كابول كان (الباحث الإجتماعي) يخاطب السلطات السودانية في الخرطوم بإعادة النظر بتوصيات تم تقديمها لنظام المخلوع عمر البشير في 2018، ويقول شوغالي إنه كان قد تقدم بعدة توصيات تحتوي على “تفاصيل دقيقة، ودراسات على أعلى مستوى، لتحقيق أعلى إستفادة ممكنة من الموارد المائية في السودان، وتطوير عمل السدود وتفادي الأزمات الناجمة عن سوء الإدارة، وكذلك كانت ستجنب السودان من كل الآثار المترتبة على بناء وملء سد النهضة، وبالتالي عدم الانشغال بالصراع الدائر حاليا مع إثيوبيا حول حصص مصر والسودان، التي سوف ستتأثر بعد ملء السد.” وإنتقد شوغالي عدم إهتمام أن الحكومة الانتقالية، وقال أن الحكومة المدنية لم تلتفت نهائيا لهذه التوصيات ولم تعمل بها، وأهملتها تماما مما أوصل السودان لمرحلة حرجة مع إثيوبيا.
وقال شوغالي أنه مؤسسته تقدمت بمجموعة مساعدات غذائية للسودان في الفترة الماضية، بالتعاون مع رجال أعمال في روسيا. ويقصد شوغالي الذي يبحث له عن موطئ قدم في السودان، المساعدات التي قدمها رجل الأعمال الروسي ورئيس مرتزقة فاغنر يغفيني بريغوجين ، وأشار شوغالي بكل وضوح أن بريغوجين أحد شركاء مؤسسته.

التعليقات